سمات لغة النصوص القانونية
أ.د/ جودة مبروك محمداللغة لاعب مشترك بين العلوم، لكن تختلف طبيعتها، فهي المدخل بوصفها أداة الفكر وتمييز مسميات الأشياء وعلامة لها، كما تحمل صورهافي الأذهان، فيها نفكر وبها نميِّز الموجودات، وتختلف باختلاف الأماكن والأقوام، كما تتنوع بتنوع العلوم وطبيعة الأشخاص وطبقتهم الاجتماعية والوظيفية والجغرافية، فـ((في لسانك عنوانك))، أو تحدَّثْ أقل لك من أنت ومن أين؟؛ لذا جدَّ من العلوم الجغرافيا اللغوية.
وقد صادفنا في التأليف في لغة القانون صنفينِ من الباحثين، منهم من درس في كلية الحقوق، ومنهم من درس في أقسام اللغة العربية، ولا شكَّ أن هناك إنجازًا عظيمًا في التأليف العلمي البينيّ، وربما تزداد الفائدة لو جمع الباحث بين العِلْمينِ بقدرٍ من التخصصِ، بحيث يصبح تخصصه بين الحقوق واللغة.
أما عن نصوص القانون فهي السبيل إلى إجراء التواصل اللغوي، فيجب أن تكون واضحة وظاهرة لا تحتمل التأويل ولا اللبس ولا الإشكال، وجلية لا خفاء فيها، وتحمل في خلفيتها تحديدًا وتعيينًا تامًّا لمواصفات الوقائع السلوكية والانحرافات وأقدارها والعقوبات وما شاكلها، بحيث يتمكن القاضي ومن ولِّي أمر التحقيق بما امتلك من حكمة وعلمٍ على توظيفها لإصدار حكمه العادل في أمور المعروض من قضايا وتحقييات.
اقرأ أيضاً
- ”ده إحنا متعلمناش”.. نماذج امتحانات الشهادة الابتدائية منذ أكثر من قرن (صور)
- كم عدد حروف اللغة الإنجليزية ؟ .. الأكثر بحثا على جوجل وسميت بلغة شكسبير
- برنامج تدريبي لطلاب جامعة جنوب الوادي للغة الألمانية
- مجمع «الخالدين» يدعم مبادرة «اتكلم عربي» للنهوض باللغة العربية
- بسبب كورونا واللغة الإنجليزية.. اليونايتد يفشل في التجديد لكافاني
- ”إيتيدا” تطلق برنامجا تدريبيا لإتقان اللغة الألمانية لطلبة الجامعات في الصعيد
- الإنسان والحلقة الأولى من اختراع اللغة
- إعلامُنا واللغة... متى ننْصفه وينصفنا؟
- التعليم العالي تتلقى تقريرًا حول أنشطة هيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا
- إلى من يهمه الأمر.. تدريس النصوص الأدبية بين الجمال والقُبْح
- هل تعلم أنك تتحدث المصرية القديمة؟
- حية ومصيبة وقاضية.. هل ظلمت اللغة العربية المرأة؟
ويذهب الباحثون إلى أن لغة القانون تختلف عن لغة الحياة اليومية ولغة العلوم الأخرى، من حيث الأسلوب والمصطلح، فهي تحمل نمطًا خاصًّا سواء كانت منطوقةً أو مكتوبةً ، كما تتطلب درجة من درجات الاستماع بحيث يتمكن المشتغل بالقانون من الدفاع.
وإذا تأملنا بناء هذه اللغة نجد أننا أمام نصوص تتطلب مهارة خاصة في التعامل معها، وتحتاج إلى معجمٍ قانوني يحددها بدقة، حتى نصل إلى درجة الإتقان والدراية في التواصل والتداول الصحيح حسب رؤية علم القانون، ونلاحظ فيها مجموعة من الخصائص التي ترتبط بألفاظها وأساليبها تنطلق من منطقٍ يقترب من حكمة البشر واتفاقات الحكماء وإجماعهم.
ولعل أول ما يقع بين أيدينا من هذه اللغة المصطلح القانوني الذي يختلف ويبرز ليعبر عن معطيات هذا الفن، فهو المفتاح لفهمه، ويحرص المشرِّع أن يضع في المقدمات القانونية التعاريف الخاصة للمصطلحات والمفاهيم والألفاظ المتداولة في النصوص، لما له كبير الأثر من التوافق على طبيعة المفردة وحدود دلالتها وما يشتمل عليه من تغطية للحدث، والتعريف هو تقييد وتحديد للفظة بما تدلُّ عليه، بحيث يحدث اتفاق ضمنيٌّ على دلالتها حسب وضع المشرع كما ذكرنا، فتغلَّف بخريطة دلالية تمثل جميع نواحي اللغة وما تشير إليه من معانٍ، فتكون أشبه بحبس هذا اللفظ داخل إطار دلالته ومربع فهمه حتى يدلَّ بدقةٍ متناهية على معناه، بما لا يحتمل الإيحاء والتأويل والغموض واللبس الذي من شأنه تتفرق فيه العدالة وتتنوع فيه الأحكام، فتضيع الحقوق، ولا عجب أن نجد الألفاظ تختلف دلالتها عن لغة الحياة اليومية.
ولعلنا نستطلع بعض الوظائف النحوية المهمة التي ترد في لغة القانون في التعبير عن الأزمنة بوصفها عاملاً مهمًّا في تحديد الوقائع وحياة البشر وسلوكهم في الحياة، فنرى إيثار المشرِّع استخدام نوعٍ من الأفعال دون غيرها، فلما كان الهدف من النص مخاطبة سلوك المواطنين في الحال والاستقبال كثرت الأفعال التي تتناول هذه الأزمنة، فتكثر صيغ الأفعال المضارعة؛ لأنها تدل على أحد شيئين : الحال أو الاستقبال، وهما يتناسبان مع الهدف من وضع مواد القوانين.
أضف إلى ذلك أن لغة القانون لا تميل إلى التفريق بين إنسانٍ وآخر، من حيث النوع أو الجنس أو اللون، فلا تمايز بين البشر، فعندما يأتي الخطاب مشتملاً على التذكير فالمراد به الرجل أو المرأة أي: الإنسان، فلا تمييز بينهما، إلا في بعض الأمور التي ترجع إلى الوظيفة الاجتماعية للذكر أو الأنثى، فإذا كان المراد تحديد الجنس بكون المذكور المرأة نصَّ على ذلك.
ومن عبقرية اللغة القانونية استخدام بعض الأساليب في اللغة دون أخرى، منذ قانون حمورابي قديمًا حتى الآن، فأكثرت من أسلوب الشرط، الذي يتكون من أداة شرط وفعل له وجواب، فهو مركب لغوي له دلالته المشروطة بشرط وجزاء، وجوابه الذي يتحقق أو لا يتحقق، فيتناسب مع ما وُضِع له.
تتطلب إذن اللغة القانونية دربة ودراية كبيرة من المشتغلين به والباحثين حتى يتقنوا عملهم، ويصلوا إلى مبتغاهم، ولربما يتميز واحد عن الآخر بامتلاكه لتلك اللغة ودلالتها وإلمامه بدلالة نصوصها، ونذكر بعض الشخصيات الكبيرة في القانون التي أجادت العربية فأخذت منها بحظٍّ من العلم تحدثًا وكتابةً واستماعًا، فنبغت أيما نبوغ، سواء كانت على منصة القضاء أو عملت بالمحاماة.
ولعنا نجد في التراث الإسلامي من شروط تولي القضاء حسب ما ذكره النووي أن يجيد القاضي لسان العرب لغةً ونحوًا عالمًا بالتأويل ، فنجده ملمًّا بالعلوم العربية على تنوعها، فالقضاة لغويون يجيدون العربية وعلومها ومفسرون يدركون التأويل القرآني، وفقهاء يحيطون بعلوم الشريعة والفقه، وأدباء يجيدون فن الأدب ونقده، وحكماء يجيدون علم الحكمة، ولديهم ثقافة كبيرة بسائر العلوم وأحوال الناس، مما يضعهم في منزلة مؤثرة في حياة الناس، فيتمكنون من الفصل فيما يبدر من نزاعات وقضايا مختلفة، وبالإضافة إلى ذلك يمتازون بالورع والزهد والحكمة والخوف من الله والعدالة والصدق والأمانة والوقار، وهي مؤهلات تطئمن الناس وتحقق الأمن المجتمعي.