إعلامُنا واللغة... متى ننْصفه وينصفنا؟
أ.د/ جودة مبروكبقلم : أ.د/ جودة مبروك محمد
يختلف الزمن الراهن عن الأزمنة السابقة، ليس فقط على المستوى التقدمي الذي وصل إليه الإنسان، بل في الإنسان ذاته، فإنسان اليوم بات مختلفًا عن إنسان الأمس، وإنسان الأمس بالطبع مختلف عن إنسان ما قبل أمس، وما يؤثر في عالم البشر من آثار الإعلام وانعكاساته صارت كذلك مختلفة، لقد أصبح إيقاع الحياة سريعًا، يتساوى مع سرعة المنجز العلمي، ودقائق الساعة كذلك صارت متسارعة كالبرق، مع أننا لا نمهل أنفسنا لحظة لنتطلع إلى ما ينبغي تقديمه لإنسان اليوم إعلاميًّا، وكلما عقدنا حديثًا إعلاميًّا لا نريد من ورائه إلا أن يتحدَّث المذيعون بالفصحى، وأن تقدم الأفلام والمسلسلات بالفصحى، وأن يتحقق في الأوساط الإعلامية ويشيع جوٌّ من الفصاحة، ولم نفكر لحظة في المتلقي وما يرجوه ويريده، وبعضنا يجيب –إن طرح الأمر- بأن يفرض عليه بقانون يجبر الإعلاميين على اللغة الفصحى، وهم- الإعلاميون- يجبرون المشاهد والقارئ والمستمع على أن لا يجد منفذًا إلا على مطالعتهم والتغني باللغة الفصحى.
يقول الخليل بن أحمد فيما نُسِبَ إليه:
والنـــاسُ أعداءٌ لما لمْ يعلموا فـــتراهمُ منْ كلّ فجٍّ يجلــــــبُ
يتغامزون إذا نطقتَ لديــهمُ وتكادُ لولا دفعُ ربِّك تُحْصَبُ
إن تاريخ اللغات يثبت أنه لا يمكن أن تُفْرَضَ على متحدثيها، وإذا ما نظرنا إلى المسألة وجدناها معقدة متشابكة، تتصل بالمجتمع وطموحه وتعدد ثقافته، فالفصيح الذي يقبله أحدنا قد لا يطيقه آخر، وتتصل بالتعليم وأنظمته، وبالتقنيات الحديثة وتطورها، وهوية المجتمعات العربية وأجنستها... وأرى أننا في الوسط الإعلامي علينا الاعتداد بما وصلت إليه العربية المعاصرة من تطور، وشهدته من اختلاف عن عربية الأمس، فاللغة التي مارسها آباؤنا لها واقعها اللساني المبني على الممارسة، فلاصق حياتهم، وعبر عن تجاربهم فيها، فأضحى نمطهم في التعايش مع اللغة ظاهرة اجتماعية مثل طريقتهم في الملابس والموديلات، ومثل عاداتهم وتقاليدهم، ومثل أسلوبهم في الفرح والحزن، فلهذا النموذج ظرفه الخاص، الذي لا يصلح لإنسان آخر، هذا واقع أي لغة في علاقتها بالزمان والمكان، تنوعٌ واختلافٌ، ولا شك أن العربية القديمة، عربية القرآن، كانت كذلك مختلفة، فلم تكن واحدة، قياسًا بالبيئة التي نمت فيها وتطبَّعتْ بطابعها حسب جغرافيا المكان، وقياسًا بالزمن الذي يُعرف بزمن الفصاحة، ويمتد طيلة ما يزيد على أربعة قرون من الزمان، فإنك تستطيع أن تلامس ذلك في اختلاف لغات العرب وكلها حجة، وهي مقولة العالم اللغوي القديم ابن جني، في باب عقده في كتابه الخصائص، فاختلاف الفصحى حسب المكان والزمان يعكس طبيعة تغيرها وحتميته، ليس فقط في العصر القديم، ولكنه في كل عصر، وتزداد إشكالية ذلك في عصر العولمة والانفتاح على الآخرين، وانفتاح الآخرين علينا، فلا ينبغي أن نظل مقيدين بالقديم، ومبهورين بنظامه ، فنقف موقف العاجز المستسلم للعصور الزاهية، فلا بد من ثورة تؤمن بالتغير والاختلاف الذي هو من نواميس الكون، فننظر في مستقبل لغتنا، ونحدد الهدف الذي نتطلع إليه من وراء استخدامها، سنجد جمعًا محققًا من القانون العام الحاكم للغة، ورصدًا لأهم الملامح المركزة في بلورتها، أو ما يسمى بالأصول المنحدرة، تلك التي يجب أن نحافظ عليها، أما الفروع وفروع الفروع فتلك يمكن التسامح فيها.
دور الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد يقوم على أساس من مخاطبة إنسان ذلك العصر، والتحاور مع منطقه باللغة التي تشبع تطلعاته، وهي اللغة التي يفهمها ويتمكن من التواصل بها، لكنها ليست اللغة القديمة.
وفي الزمن القديم عبرة لنا في الكيفية التي بها نتواصل مع الآخرين، رأيناها في التسامح الديني في صورة القراءات القرآنية المتعددة، فقد أنزل القرآن على سبعة أحرف، والمراد بالسبعة المبالغة في العدد، فتصل إلى قراءات كثيرة، وتبرز القيمة في التنوع اللهجي للعرب قديمًا في تسهيل قراءة القرآن من قبل الأميين، فمن العرب لا شك مَنْ هو محدود الثقافة، فلا يقوى لسانه على نطق القرآن بقراءة واحدة، فسُمِحَ لهم بتنوُّعِ قراءاته، مع مراعاة صدق وصول الرسالة كاملةً دون نقص أو تحريف.
وكذا يمكننا التوقف تجاه ألسنة متعددة في اللغة القديمة، وصوب طرق مختلفة للتعبير، مع التسامح لبعض هذه الفنون الكلامية حسب المقتضى الفني الذي يتطلبه كل فن، فأُعْطِيَتْ رخصٌ، وقُوبِلَتْ بالترحاب من قبل المقعِّدين للغة، وقد فَهِمَ أحد أساتذة اللغة المعاصرين ذلك على أنه نوعٌ من الإبداع النحوي، في تحليله للإبداع القولي، فالذين طرحوا فكرة الرخصة للشاعر في شعره هم النحاة، وقد قال شيخ من شيوخهم، وهو سيبويه، يجوز في الشعر ما لا يجوز في النثر، فهو كلام ينحو نحو الاقتصاد اللغوي، من حيث إن الشعر كلام مضغوط.
ونلقى الجاحظ في تحديده لمعنى بلاغة المبدع، فيحصرها في مطابقة مقتضى الحال مع لزوم الفصاحة، فالتوقف على ثقافة الآخر، واحترام المستوى الاجتماعي له، يشكل موقفًا إيجابيًّا في التراث العربي.
فذلك الموقف من لغة الإعلام في العصر الراهن، أنها يجب أن تمتاز بالمحافظة على الهدف العام من وراء اللغة، فتلتزم القواعد، وتراعي المتلقين لها.