الفارابي.. من اختراعه للآلات الموسيقية إلى التنويم بالموسيقى
بقلم أ.د/ جودة مبروك محمد
الموسيقى من الفنون القائمة على الإيقاع المنتظم المحدث للنفس هزة فتؤثر في قابلية الإنسان للأشياء، فهي من مقومات الحضارة، ومكوِّن لذاكرة التاريخ بما يسجِّلُه من أحداث عن طريق الفن في صورة الأغاني وكلماتها بأجناسها المختلفة، وهي فن قديم عرفته الحضارة الفرعونية،وسجَّله المصري القديم على المعابد والآثار، وهناك متخصصون في الأكاديميات المصرية في الموسيقى الفرعونية مثل الدكتور خيري الملط ابن محافظة بني سويف.
إن أول تدوين موسيقي عربي في ((خبر تأليف الألحان)) لأبي إسحاق الكندي، لكنَّ الفارابي الفيلسوف والفيزيائي والطبيب(260 - 339 هجرية)يبرع في هذا الفن، ويؤلِّف كتبًا كثيرة في هذه الصناعة، أبرزها كتاب ((الموسيقى الكبير)) الذي يقع في جزأين كبيرين،تناول في القسم الأول مدخلاً إلى الموسيقى،وفيه تعريف اللحن وأقسامه، وأصل الموسيقى، ونشأة الآلات الموسيقية،أما القسم الثاني فتناول فيه صناعة الموسيقى: الآلات الموسيقية المشهورة عند العرب، وتأليف النغم وطرائق الألحان وصناعة الألحان الجزئية، وقد تُرجِم إلى لغات كثيرة، ويقال إنه ابتكر الربابة والقانون.
يرى الفارابي أن الموسيقى قبولها قائم على الذوق، الذي يختلف من عصر إلى عصرٍ، ومن جيلٍ إلى جيلٍ، وليست ثابتة مثل قوانين العلم ونظرياته، فلا تخضع للبحث العقلي، يقول: ((فليس سبيل الطبيعة من الألحان سبيل الشرائِع والسُّنن التي ربما حمل الناس عليها، أو أكثرهم في بعض الأزمان، فيتبع بعضهم فيها بعضًا، فيستحسن على سبيل ما تستحسن المألوف من الأمور. غير أن ما هذه سبيله من مستحسن أو مستقبح لا يراعي كيفما اتفقت)).
لقد أدرك الفارابي أثر الموسيقى في النفس في أنواعٍ ثلاثة: لحنٌ يُكْسِبُ النفسَ لذةً وراحةً فحسب، ولحنٌ مخيِّلٌ يُحْدِثُ في النفس تصورات وتخيلات،فهو شبيه بفعل التماثيل المحسوسة بالبصر، ولحنٌ انفعالي يزيد الانفعال أو ينقصه، وكلُّ انفعال مثل الحزن والرحمة والقسوة والطرب والغضبله نغمٌ يناسبه.
ويرى أن اختراع الموسيقى أشبه بالاضطرار لإيفاء الفطرة الإنسانية التي من خصائصها التصويت تعبيرًا عن أحوالها اللذيذة والمؤلمة.
لقد تفوَّقَ الفارابي في توظيفه للموسيقى والألحان، فكان يمتلك نفوس مستمعيه، ويُحْكَى عنه أنه قَدِمَ على مجلس سيف الدولة،ولم يُعجبْه ما سمع من ألحانٍ وغناء، فقال له سيف الدولة : وهل تحسن في هذه الصناعة شيئًا؟ فقال: نعم، ثم أخرج من سوطه خريطة ففتحها، وأخرج منها عيدانًا وركَّبها، ثم لعب بها، فضحك منها كُلُّ مَنْ كان في المجلس، ثم فكَّها وركَّبها تركيبًا آخر، وضرب بها، فبكي كل مَنْ في المجلس، ثم فكَّها وغيَّر تركيبها وحرَّكها، فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نيامًا وخرج.