تكامل أدوار البنية في نقد طه وادي
جودة مبروك محمد محطة مصرعندما نكتب عن إبراهيم ناجي.
فإنه أحد شعراء أفضل مائة قصيدة في الشعر العربي، وهي الأطلال.
وعندما يتناوله طه وادي بالبحث فذلك حظ كبير للشاعر والديوان، لما عُرِفَ عن طه وادي من حِسٍّ مُرْهفٍ، وإبداعٍ ثريٍّ، فيلتقي مبدعٌ دارسٌ بمبدعٍ شاعر.
اقرأ أيضاً
- لأول مرة.. عمر خيرت في قصر عابدين
- قطع مياه الشرب عن هذه المناطق في أبو النمرس.. الجمعة
- 6.2 مليار جهاز كمبيوتر وموبايل متصل بشبكة الإنترنت في العالم
- الآن يمكنك استئجار دونالد وميلانيا ترامب لحضور مناسبتك الخاصة
- براءة مدير الشئون القانونية بالزمالك من سب مرتضى منصور
- السفير البريطاني: خصصنا 1.7 مليار جنيه إسترليني لمساعدة العالم في مواجهة كورونا
- ملكات جمال الخمسينات..رحلة البحث عن الجوارب في مصر
- بعد حظر حساباته...فيسبوك تتتبع فيديوهات ترامب على حسابات أفراد عائلته
- أهداه دور العمر...من هو الفنان الذي أعطاه محمود مرسي أحد أهم أدواره
- بعد تصدرها التريند...أبرز الأدوار التي قدمت موهبة روبي التمثيلية
- حتى الـ3 عصرًا.. انقطاع المياه عن مدينة سمالوط بالكامل اليوم الخميس
- الكويت تتضامن مع مصر والسودان في أزمة سد النهضة
فماذا عن الأدوات النقدية عند الدكتور طه وادي؟
تقف اللغة أداة مهمة في التعبير، حيث تشكل الأساس في الرسالة الأدبية، لكن بحال من الأحوال نسطر شيئًا عن عبقرية اللغة في الأداء الشعري، من خلال رؤية الناقد طه وادي للشاعر المنكسر والطبيب المجروح إبراهيم ناجي.
بداية وكنت تلميذا للدكتور طه وادي فقد كان مؤديًا جيدًا في أحاديثه، وبارعًا في التصوير والتشبيه حتى تراه يغني باللغة، ولا تبدو هذه السمة بعيدة عنه حال كونه ناقدًا على الورق، فتجلت دقته في كتبه جميعها، وعلى الأخص ناجي الموقف والأداة.
وهذا هو الشاعر إبراهيم ناجي الذي ظلمه النقاد لكونه طبيبًا، فما أقسى من حكم طه حسين عليه بأنه شاعر هين لين... وأن شعره أشبه بموسيقى الغرفة، جاء ذلك في قراءته لقصيدة ((قلب راقصة))، ووازن بينه وبين محمود طه، وفضل الأخير عليه، ثم يُظْلَمُ ثانيةً على يد العقاد عندما أطلق عليه ((شاعر الرقة العاطفية)) و((شاعر الظَّرف))، وهي أوصاف غير مقبولة في هذا الحين وتأخذ منه أديبًا، إضافةً إلى بعض العداوات الأدبية بينه وبين أقرانه التي لا ذنب له فيها من الشعراء أمثال: علي محمود طه، وعبد الحميد الديب، مما دعاه إلى وصف حاله بقوله:
هي محنةٌ وزمانُ ضيقْ وتكشَّفتْ عن لا صديقْ
وإذا كان إبراهيم ناجي قد ظُلِم في الأدب بين الأدباء، فقد ظلم ثانيةً في مهنة الطب، فأهل المهنة يرونه أديبًا، ويقللون من شأنه طبيبًا، فلا شأن له بالطب، مما جعله ينقص في وظيفته من مدير للقسم الطبي بوزارة الأوقاف إلى مراقب، ثم تم فصله، وهذا كان له كبير الأثر في نفسه.
وكأن ناجي يلقي باللوم على هؤلاء وهؤلاء بقوله:
والناسُ تسألُ والهواجسُ جمةٌ طبٌّ وشعرٌ كيف يتفقانِ
الشعرُ مرحمةُ النفوسِ وسرُّهُ هبةُ السماءِ منحة الديَّانِ
والطبُّ مرحمةُ الجسومِ ونبعُهُ من ذلك الفيضِ العليِّ الشانِ
ومن الغمام ومن مُعينِ خلفَه يجدانِ إلهامًا ويستقيمانِ
لقد وعى طه وادى هذه الأجواء والسياقات التي أحاطت بالشاعر، وغيرها من آلام النفس والجو المحبط خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وما ساد البلاد من بؤس وخراب، إضافة إلى مرضه، وما أصدق تعبيره عن موقفه بأدواته اللغوية وهو يودِّع الحياة المأهولة إلى الاغتراب الذي نسجه لنفسِه بقوله:
وداعًا أيها الشعر
وداعًا أيها الفن
وداعًا أيها الفكر
وداعًا ... ودمعة مرة وابتسامة أمرَّ
كانت رؤية طه وادي للأداة على أنها مكمل شكليٌّ لا بد منه لعنصر المضمون، واللغة هي الحامل للمعاني، فالشكل يناقش الأدوات والوسائل الفنية، أما المضمون فيتناول الأفكار والقضايا الموضوعية، ويرى أنه من الضروري التكامل بين العنصرين، فإذا ما توافر في القصيدة الشكل الفعال من الناحية الجمالية، دون مضمون فعال من الناحية نفسها، فذلك أمر لا يمكن تجاوزه.
ويفضل الناقد طه وادي استخدام مصطلح البنية للدلالة على الشكل والمضمون معًا، فالعمل الأدبي نظام كلي من الإشارات للتعبير عن الغرض الجمالي النوعي. وهو نشاط معرفي يقدم خبرة موضوعية وفلسفية وفكرية للواقع الإنساني، ولا يعني هذا أن الأدب يحاكي الواقع محاكاة تامة أو يقدم رأيًا، بل رؤية وموازاة رمزية ومعادلا موضوعيًا لمعاناة الفنان.
وينظر طه وادي للأدب على أنه تجربة أدبية في المقام الأول، ويتكئ في تحليله على الموقف بوصفه جوهرًا، وأنه المسؤول عن الصياغة الجمالية ويحمل رؤية الأديب للحياة والبشر. والفنان ينطلق من مثير محدد ويتجاوز النسبي إلى المطلق، ومن محنة الفرد إلى قضية الإنسان، وبالتالي يحمل الفن الحقيقي قيمة ثابتة من قيم الإنسانية الخالدة، وإن اختلف العصر.
ويورد مجموعة من المفردات النقدية تبرهن على أنه تعرض لضراوة الواقع وخشونة الحياة الاجتماعية، فلمَّا لم يستطع التصدي لها جسَّد ضيقه وعجزه في رؤية رومانسية لها إطار فكري خاص، وقد حدد لها مجموعة من الأصوات، فالتجربة الأدبية عنده يمكن أن يُنْظر إليها على أنها استجابة لقضية إنسانية، وعلى أنه ينتقل إلى البعد الإنساني والحقيقة المطلقة في التجربة الأدبية، وهذه التجربة الأدبية تمثل معادلاً موضوعيًّا، كما هي عليه عند ت إس إليوت.
ويستنبط مستويات الدلالة على أنها صوت من أصوات الشعر عند ناجي من خلال اعتماده على القراءة المتأنية لعناصر البنية، تأتي على ثلاث قراءات متدرجة، وهي:
القراءة الأولى أو الصوت الأول: يمثل الحبيب الحب المقدس الأفلاطوني ووفيًّا لمن يحب وخلاصًا روحيًّا يهوِّن من مرارة الحياة، وهو سر الإبداع عند الشاعر، فأصبح الحبيب مثالاً فوق الحياة والأحياء، ويلجأ الناقد في سبيل برهان ذلك إلى المقارنة بين إبداع الشاعر لفنه ومعارفه في علم النفس في تفسير سيكولوجيا الحب، فيبدو شعر ناجي على أنه تنويعات على لحن واحد، وعناصره تنطوي تحت بنية فكرية وفنية واحدة، هي الرؤية الصوفية للحب، بل أصبح المحبوب عنده معبودًا، وداره كعبة وزيارته طوفان: يقول:
هذهِ الكعبةُ كنا طائفيها والمصلِين صباحًا ومساءْ
كم سجدنا وعبدنا الحُسنَ فيها كيفَ باللهِ رجعنا غُرباءْ
القراءة الثانية أو الصوت الثاني: تتجاوز أزمة الفرد عند ناجي محنة الفرد إلى قضية الإنسان المغترب المنفيّ، فليست الأزمة عاطفية فقط، بل هي أزمة مادية حقيقية انعكست في تلك الصورة العاطفية، ويكوِّن الشاعر رؤية قاتمة للكون، فكل سعادة في الحياة إلى ألم وكل نعيم فيها إلى شقاء، والحب فيها فانٍ، والجمال زائل، والمخترعات الحديثة بقدر ما تسعد الإنسان تقضي على وجوده وحيويته، كما في قصيدة ((الحياة)):
وانظرْ إلى سيارةٍ كالأجلْ تخطفُ خطفًا لا تبالي الزحامْ
هذا الرَّدى الجاري اختراعُ الرجلْ هل بعدَ صُنعِ الموتِ شيءٌ يُرام
القراءة الثالثة أو الصوت الثالث: تعدد مستويات الدلالة والرمز، شريطة أن يحمل النص إشارة تفسير العبارة وتلميحًا وتعبيرًا يساعد على التفسير. ويفسر الناقد المحبوبة التي يتغزل فيها الشاعر في قصيدة ((ليالي القاهرة)) على أنها الوطن.
لم تكن اللغة وحدها كافية بأن تكون أداة التشريح للنص الأدبي عند ناجي، وقف الموقف والسياق مكوِّنًا مهمًّا وملهمًا في تفسير حالته الأدبية وتفكيك النص، وهو ما ارتآه طه وادي في كتابه: شعر ناجي الموقف والأداة.