عتاب على ورق بردي .. ”واتسآب فرعوني” عمره آلاف السنين
حنين ناجيجرب أن تنظر إلى هاتفك المحمول، وتتابع عدد الرسائل التي تتبادلها مع أصدقائك على واتسآب أو ماسنجر، ستجدها بالعشرات يوميًا، فقد تعاتب أحد الأصدقاء لأنه تأخر في الرد على رسائلك أو قام بتجاهلها؟ وربما تلومه لأنه لم يفِ ببعض الوعود تجاهك حتى الآن؟ ..
مشادات ورسائل متبادلة وعتاب تحمله رسائل الأصدقاء كل يوم، وقد يتصور البعض أن تلك العادة زادت وتيرتها مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، لكن المدهش أن تعرف أن قدماء المصريين اخترعوا أدواتهم للتواصل بين الأصدقاء قبل آلاف السنين، فكان لديهم "واتسآب" الخاص بهم، لكن هذه المرة عبر أوراق البردي.
هذه الحقيقة كشفتها عالمة المصريات بجامعة أوكسفورد البريطانية (ديبورا سويني Deborah Sweeney) في دراسة لها بعنوان "الصداقة والإحباط .. دراسة في برديات دير المدينة"، حيث قامت بفحص برديات ضمت مراسلات بين بعض الكتبة المصريين في زمن الأسرتين الـ 19 و20، عثر عليها في منطقة دير المدينة الأثرية بالأقصر، وهي قرية تضم حرفيين كانوا يعملون في المقابر الفرعونية، وركزت سويني في دراستها على ثلاثة مراسلين كتبوا على وجه الخصوص رسائل غاضبة وحزينة سواء إلى أصدقائهم أو إلى أحد أفراد أسرهم.
البرديات الثلاث تحمل في كل منها عتاب من جانب المرسل لصديقه المرسل إليه، سواء لأنه لا يرد على رسائل صديقه أو لأنه لم يقم بالوفاء بوعده، وهو ما يعد بمثابة انتهاك للمعايير المصرية للسلوك الاجتماعي السليم التي تلزم بعدم تجاهل الأصدقاء بالإضافة إلى الوفاء بالوعد.
في إحدى البرديات التي تحمل الرقم (IV) يقول الكاتب "نختسوبك" لصديقه في العمل "أمناخت" بحزن بعد أن أشاد به في بداية رسالته وتمنى له الخير: "ما الإساءة التي فعلتها ضدك؟ ألست أنا صديقك القديم في الأكل؟" لا يفهم "نختسوبك" الخطأ الذي ارتكبه في حق "أمناخت"، فكيف لصديقه الذي "أكل معه عيش وملح" أن يقوم بتجاهله، ليس هذا فقط بل ومنعه من دخول القرية، حيث توضح لنا الرسالة بعد ذلك أن "أمناخت" حاول منع "نختسوبك" من دخول القرية ولكنها لم توضح لنا سبب هذا النزاع الذي جعل الحال يصل بأحدهما ليمنع الآخر من دخول القرية فضلًا عن تجاهل رسائله.
وفي البردية التي تحمل الرقم (V) يقول المرسل الذي لم يترك توقيعًا لصديقه: "ما خطبك؟ قل لي ما يدور في ذهنك لعلي أفهم؟" فالمرسل هنا غير قادر على فهم سلوك المرسل إليه، فبعد كل شيء لم يقم بإرسال (المرهم) كما وعده، قائلا له: "هل من الجيد للرجل أن يطلب شيئا من صديقه مرتين ولا يلقى جوابا؟ مثل المرهم الذي طلبته منك وأنت وعدتني بإرساله لى!"
أما البردية رقم (VI) والأخيرة فنجد فيها مشكلة أكبر بين الكاتب المجهول وصديقه، حيث يخبرنا الكاتب المجهول أن امرأة – من المحتمل أنها زوجة المرسل إليه أو تربطها معه علاقة ما- قد هربت إلى دير المدينة فقام المرسل باستضافتها في منزله لفترة وكتب إلى المرسل إليه دون علم تلك المرأة ليعلمه بمكانها ويطلب منه مقابل الإعاشة بالإضافة إلى المرهم الذي طلبه منه في وقت سابق حتى يستطيع الإعتناء بها جيدًا، كما حذر المرسل إليه بأن يقوم بالإعتناء بزوجته وألا يفعل ما فعله بها في الماضي. وينهي المرسل رسالته لصديقه قائلا: "أنا من يكتب إليك في كل مرة ولكنك لا تكتب لي لعل صحتك بخير".
تكرار طلب المرهم في تلك الرسالة والتذكير بتجاهل رسائل المرسل يجعلك تعتقد أنه نفس مرسل البردية رقم (V)، إلا أن الباحثة "سويني" تفترض أنه كاتب آخر لا علاقة له بالبردية السابقة.
وترجح "سويني" أن المرأة التي جاء ذكرها في البردية الأخيرة هربت من منزلها لتشتكي حالها إلى المعبودة نفرتاري في دير المدينة، وربما كان الابتعاد عن المنزل بسبب إساءة معاملة زوجها لها، وربما يكون المرسل إليه هو زوجها سيء السلوك وأن المرسل هو صديقه القديم وقريب هذه الزوجة في نفس الوقت، وبذلك توضح هذه الرسالة أن المرسل إليه لا يرقى بأن يكون ملتزما بالمعايير المصرية للسلوك الاجتماعي السليم سواء بالنسبة لزوجته أو لصديقه الكاتب.
ويبدو أن مشكلات المصريين الاجتماعية لها جذور بعيدة منذ زمن البردي، وحتى عصر "الفيسبوك" و"الواتسآب".