وجوه من ”وش القفص” .. مشاركة مشرفة في مهرجان الإسكندرية
د. وليد سيفبمهارة روائية متمكنة لها أعمالها فى مجال الأدب ترسم دينا عبد السلام ملامح شخصيات فيلمها بتأن وحرص، لتبدو وكأنها منحوتة من قلب الحياة المصرية بهمومها وأحلامها وطموحاتها المتواضعة وقدرتها على أن تتعايش مع الواقع وأن تخوض معاركها الصغيرة من أجل الشعور بالذات.
وبمقدرة عالية على تحقيق البناء الدرامى المتصاعد ونسج الأحداث تستطيع دينا أيضا من خلال السيناريو أن تدفعك دفعا لتتعايش مع القصة وتتعاطف مع القصة وتتعاطف مع الشخصيات وتصدقهم وتحبهم وتتقبل ما يصدر منهم من أفعال طائشة وسلوكيات عجائبية تتسق تماما مع واقعهم الغريب.
وبموهبة وتمكن مخرجة مبدعة تختار الوجوه المطابقة لملامح الشخصيات وتحقق بينهم حالة من الانسجام والتوافق فى أسلوبية الأداء الطبيعى الطبيعى والانفعالى المنضبط دون أن يخلو من ملمح كاريكاتورى مميز على الرغم من تنوع مستويات خبراتهم بل إن معظمهم يقف أمام الكاميرا لأول مرة وكلهم جميعا من الوجوه غير المألوفة على الشاشة، فضلا عن غياب أى نجم من أى مستوى، لكنك من خلال الأحداث تشعر بألفة غريبة معهم وكأنك تطالع فى وجوههم صورة لجيرانك وأقاربك ومعارفك.
شارك فيلم وش القفص لدينا عبد السلام فى المسابقة الدولية لمهرجان الاسكندرية لدول البحر المتوسط بجدارة متنافسا مع مجموعة من الأفلام القوية من شمال المتوسط وجنوبة، وعلى الرغم من الميزانية الضئيلة التى أنتج بها والظروف الصعبة التى تحقق من خلالها أمكنه أن يقف على قدم المساواة فى هذه المواجهة القوية والصعبة.
ربما تلاحظ بعض العيوب فى الماكساج حين تطغى الأصوات الخلفية عن الأصوات الأمامية، وقد تلاحظ بعض القطعات المونتاجية الحادة الخارجة عن أسلوبية الفيلم أو بعض المشاهد التى كانت فى حاجة للمزيد من التشبع، لكن كل هذا لا يساوى شىء أمام الفكرة المبتكرة والمعالجة الدرامية المحكمة والصورة الطازجة القادرة على أن تضيف الجديد إلى ذاكرتك البصرية والرشاقة النابضة من حركة الكاميرا والزوايا المعبرة والقطعات البارعة والإيقاع الحركى والانفعالى المنضبط الذى يضفى حيوية على مشاهد الفيلم وهذا فضلا بالطبع عن هذه الوجوه الجديدة التى تثرى الشاشة بتنوعها وقربها الشديد من الشخصيات الحقيقية بعدم لجوئها إلى أساليب التجميل والتلميع التى أصبحت تطغى على معظم أفلامنا وتفقدها المصداقية.
يبدو هذا الفيلم وكأنه تعبير عن مخزون متراكم من الخبرات الحياتية والتجارب الإبداعية التى خاضتها دينا فى مسيرتها الفنية التى بدأت منذ عام 2014 بفيلم نور، وأعقبته بكان وأخواتها 2016 ومستكة وريحان 2017 وحصدت بهم العديد من الجوائز المحلية والدولية.
تستعرض دينا شخصياتها فى البداية بتعريف كل منهم بشكل واضح من خلال صوت من خارج الكادر، ربما تستهلك مساحة أكبر من اللازم فى الاستهلال بهذا الأسلوب على الرغم من أن بعض الشخصيات سوف نتعرف عليها من خلال الأحداث دون حاجة للتوضيح المسبق حيث ستتضح ملامحهم من خلال الأزمات التى سنتابعها خلال الأحداث.
غالبية الشخصيات تعانى من أزمات مالية بالأساس فمعظمهم يعملون فى شركة لتصنيع المربى تعانى من الكساد، فيسعى كل منهم لتحقيق احتياجاته البسيطة بوسائله الخاصة.. نتسلل إليهم من خلال السباك المفصول من الشركة بتهمة سرقة حنفية ومعه وأثناء الإصلاحات التى يجريها ندخل إلى قلب بيوتهم فنرى العجوز التى يتلخص حلمها فى أداء فريضة الحج قبل أن تموت، والفتاة العانس ضعيفة النظر التى تحلم بالزواج ولكن قبل ذلك يلزم إجراء عملية لتحسين النظر.. والموظف البسيط الذى يسعى لانقاذ الشركة من خلال أفكار ساذجة ومثيرة للسخرية، وزوجته التى تقيم فى بيت الزوجية مشروعا ناجحا سرعان ما يفشل بسبب أزماتها مع الزوج، ورجل يحلم بالسفر إلى إبنه فى أمريكا ولا يملك تذكرة السفر ولا يعلم أن الأهم والأصعب هو الحصول على التأشيرة، وشاعر يأمل أن يصدر ديوانا لاشعاره التى ابتذلها مطربوا المهرجانات.
تتلقف عاملة البوفيه أحلام هؤلاء وتوجد لهم الحل بعمل جمعية يتشارك فيها الجميع ويقبضها كل شهر واحد منهم ليحقق حلمه، لكن القدر يتدخل ويطيح باستمرار الجمعية وتحقق الأحلام، فماذا يفعل هؤلاء حيال هذه الصدمة.
تمتلك دينا عبد السلام عين سينمائية من طراز خاص وفريد تجعلها تلتقط من تفاصيل المكان ما يثرى الصورة، بفضل اختيارها لزواياها والتكوينات الملائمة المعبرة التى تثرى المعنى وتكمل العلاقات وتؤكدها مثل السمكة الوحيدة التى تربيها العانس فى حوض كبير فتبدو وكأنها صورة منها وترديد لها ، وهى تضفى على الصورة ملامح مميزة تستوقف العين وتستلفت الانتباه مثل الشربات وهو يصب فى بلونه الأحمر المعبر والمرهص، وهى تضفى على الصورة أيضا ملامح مدهشة من وحى الدراما مثل العروس التى تتوجه للعزاء المفاجىء بفستان الزفاف أو العجوز الذى لا تفارق يديه البلالين المرفوعة وكأنه فى احتفالية دائمة، أو فى التعبيرات الخاصة بكل شخصية مثل الابتسامة الزائفة على وجه ضعيفة البصر فور أن ترتدى نظارتها.
فيلم وش القفص هو أحد أهم النتاجات القوية للسينما المستقلة فى مصر وهو تحديدا يتحقق بعيدا عن أى دعم من أى نوع وفى غياب أى نجم، وفى صعوبة شديدة فى الحصول على توزيع فى دور العرض عكس ما اعتادت عليه هذه النوعية من الأفلام، لكنه فيلم يستحق بالفعل أن يحظى بفرصة عرض قوية تعيد للصورة السينمائية واقعيتها الغائبة ومصداقيتها المفقودة.
تستحق إدارة مهرجان الإسكندرية التحية على شجاعتها فى اختيارها لهذا الفيلم رغم بعض مشكلاته التقنية، وهو يعد أول إنتاج فى السينما المصرية سكندرى بالكامل سواء فى أحداثه أو أماكن تصويره أو فريق عمله،، وهى مسألة جديرة بالإشادة فى حد ذاتها بعيدا عن الجوائز والاختلاف فى وجهات النظر حول الفيلم، حتى تخرج الصناعة عن مركزيتها وتنتقل إلى محافظات مصر وتكفل لفنانى الأقاليم التحقق دون الحاجة للانتقال للقاهرة.