مؤسسة الفيلم الأوروبي الجديد وتقييمات النقاد بكارلوفي فاري الـ٥٥
د. أمل الجمل كارلو في فاريللمرة السادسة على التوالي تشارك مؤسسة الفيلم الأوروبي الجديد، بالتعاون مع الاتحاد الدولي لنقاد السينما «فيبريسي» في مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي، وذلك باختيار ١٧ عضوا من النقاد الدوليين الحاضرين - كانت كاتبة هذه السطور من بينهم - للتصويت على الأفلام المشاركة بالمسابقة الرئيسية وكذلك مسابقة «شرق الغرب» في المهرجان التشيكي العريق الذي امتد بالفترة ٢٠- ٢٨ أغسطس الماضي.
للمرة الثالث أُشارك في هذا التصويت، لكن المفاجأة أنني هذا العام منحت الدرجات النهائية - رقم خمسة والذي يُعد أعلى درجة تُمنح للأفلام المتميزة - لستة أفلام في المسابقة الرسمية من بين ١٢ فليما مشاركاً كانوا ينافسون على «الكريستال جلوب»، بينما منحت الدرجات النهائية لخمسة أفلام من مسابقة «شرق الغرب» والمكونة أيضاً من ١٢ فيلماً.
لست من النقاد الذين يمنحون الدرجات بسهولة، لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، هو ارتفاع مستوى أغلب الأفلام سواء في المسابقتين أو حتى في الأقسام الآخري؛ في العروض الخاصة، وآفاق، وغيرها من الأقسام ومنها «الركن الاستعادي» الذي قام بتكريم مؤسسة مارتن سكورسيزي بعرض عشرة أفلام من ترميم المؤسسة العريقة والذي أشرف عليه الناقد السينمائي المصري جوزيف فهيم.
من بين الأفلام التي منحتها درجتين بالمسابقة الرسمية - من بين أربعة أفلام منحتها نفس التقيم - فيلم وثائقي اختلفت الآراء من حوله بعوان «كل دقيقة». عن زوجين قررا تكريس حياتهما لتربية إبنهما وتعليمه رياضات مختلفة ليتفوق ويصبح مفيداً للمجتمع. ثلاثة نقاد منحوه درجتين، وثلاثة منحوه ثلاثة، وناقد واحد منحه أربعه، وآخر منحه درجة واحدة لتكون حصيلته النهاية بإجمالي درجتين ونصف، وهو الفيلم الذي مُنح جائزة لجنة التحكيم الخاصة بالمسابقة الرئيسية.
على خلاف الفيلم السابق نجد فيلماً قوياً متماسكاً بعنوان «نقطة الغليان»، بريطاني الإنتاج، قد خرج من التنافس من دون أي جوائز، باستثناء تنويه لأداء بطلته. وذلك رغم أن الفيلم من أصعب الأفلام في البناء الدرامي، خصوصاً أنه يدور في نحو ساعتين فقط، حيث أن زمنه الواقعي هو نفس زمنه الدرامي، ليلة رأس السنة في أحد المطاعم، ونعيش بين زبائنه ومشاكل فريق العمل.
تنبع قوة الفيلم من قدرته على أن يجلب لقاعة هذا المطعم كل فساد المجتمع بمختلف بكل أشكاله وألوانه من أعلى الطبقات إلي أوسطها وأدناها، ليكشف عن تعاملات الرشوة ومحاولات تشويه الآخرين، والابتزاز، وهراء السوشيال ميديا، ومشاكل البطالة، وإدمان المخدرات، ومشاكل العلاقات العائلية، ولحظات الحب والترفيه عن النفس، وصعوبة أن تحافظ على عملك.
إنه فيلم سينمائي يخطف الأنفاس، منحته خمس درجات بينما منحه سبع نقاد آخرون أربع درجات وهو أمر نادر الحدوث بين النقاد ولم يتكرر مع الأفلام الآخرى. وكان إجمالي تقييم النقاد له ثلاثة درجات ونصف ليتساوى بذلك مع الفيلم الصربي الفائز بالكريستال جلوب «أسير لأبعد ما أستطيع» الذي يدور عن اثنين من المهاجرين في الصرب يتعرضان لاختبار شديد القسوة عن معنى الحب الحقيقي الذي من أجله تُمارس التضحية بالحب ذاته.
هذا الفيلم الفائز منحته أنا ثلاث درجات، لأنه، في تقديري، في الأجزاء الخاصة بالمهاجرين لم أجد أي إضاءة جديدة، ولا مبتكرة، وكل قيمة الفيلم تتجسد في الربع ساعة الأخيرة فقط.
لم يتفوق على الفيلمين السابقين في تقييم النقاد سوى الفيلم الإيطالي «أرض الأبناء» والذي منحته أنا أيضاً خمس درجات، وحصل على إجمالي نقاط ٣،٦٤. إنه فيلم يعتمد على الإستعارة والدلالات الرمزية عن حقيقة الأبوة والتضحية، وتربية الأبناء بقسوة، وإخفاء المشاعر لأجل خلق جيل قوي قادر على مواجهة قسوة الحياة. يُميز الفيلم بكارته في التناول وفي التصوير التعبيري، وخلق شخصيات بتصرفات شديدة الرمزية.
أما في مسابقة «شرق الغرب» فقد منحت خمسة أفلام الدرجات النهائية، منها الفيلم الروسي «نوشا» الذي أثر في جداً برمزية فكرته، بصدقيته العالية وروعة زمنه النفسي، بتلقائية أداء أبطاله. إنه الفائز بالجائزة الكبرى في تلك المسابقة، والذي يدور عن فترة من فترات الغزو، والاحتلال بمفهومه الفردي مسقطا تلك الفردية على الاحتلال الجمعي بتصوير بديع مُفعم بالحرارة الإنسانية ويجعلنا داخل الشاشة السينمائية لشدة التلقائية وبكارة السيناريو.
كذلك من بين تلك الأفلام التي منحتها خمس درجات «وحدة الحياة المكثفة» الوثائقي التشيكي الذي تدور أحداثه بداخل وحدة العناية المركزة والأيام الأخيرة لأغلب مرضاها، فما بين ٦٠ إلي ٧٠٪ منهم يرحل للأبد، والفيلم يُركز على معاملة الأطباء مع مَنْ يستعدون للرحيل، ومع أسرهم، حيث يتم تهيئة الطرفين لتلك الرحلة الأبدية، ومن هنا جاء اسم الفيلم الذي يعني الاحتفاء بالحياة رغم قسوة الظروف. وقد حصل الفيلم على تنويه خاص من لجنة التحكيم، وشخصياً كنت أراه يستحق أكثر من مجرد تنويه، لكن ما العمل إذا كانت الجوائز محدودة والأعمال المعروضة المتميزة جيدة؟! لكني شخصياً أعتبر الفائز هو الجمهور.
أما فيلم «إُخُوَّة البنات» أو «سيسترهود» فقد منحته أربع درجات إذ يتناول الفيلم فترة المراهقة بكل تعقيداتها خصوصاً في ظل زواج الأب من امرأة آخرى وغياب الأم، ووقوع الإبنة في مشاكل الغيرة والحب المراهق والخلافات بين الزميلات التي قد تقود لمقتل إحداهن بدون قصد، وعقدة الذنب المترتبة على ذلك. عمل سينمائي مليء بالتفاصيل، وقادر على ضبط الحالة النفسية للمراهقات بشكل لافت، لذلك يستحق جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
من الأفلام التي لم تعجبني لأسباب فنية شريط «كل دقيقة». أعتقد أنه حصل على الجائزة بسبب علاقته بتربية النشيء، لكني أراه متواضع فنياً. كذلك فيلم «غرفة المدرسين» الذي حصل على تنويه لجنة التحكيم الرئيسية، فقد منحته درجتين فقط، لسبب أساسي أن المخرجة كان لديها أفكار عديدة، وخطوط كثيرة، ومشاكل متنوعة، وهى أرادت الإحتفاظ بكل شيء وطرحه دفعة واحدة. صحيح أن الحياة الواقعية يحدث فيها هذا، لكن السينما ليست استنساخ للواقع، إنها اختيار وإعادة خلق. يتضح ذلك بقوة في معالجتها للأصوات والخلافات والصراعات إذ بدى الفيلم عالي الصوت، مزعج بدرجة كبيرة.
كذلك الفيلم العراقي الكردي أعتبره أضعف الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية. لأنه شديد السطحية، وإن بدا ظاهريا أنه مع المرأة، لكنه في الحقيقة ومع تأمل رسمه لتصرفات المرأة سنكتشف أنه ضد المرأة لذلك منحته درجتين. أما في مسابقة «شرق الغرب» فقد منحت الفيلم الوثائقي «جذور» درجة واحدة في مرة نادرة أثناء تقيمى لأفلام كارلوفي فاري، لأنه فيلم أخذ أسهل الطرق، بوضع شخصياته في سيارة وتركها تتحدث أثناء سير السيارة، بدون أي إبداع، أو ابتكار، باستثناء القطع على مشاهد طبيعية جميلة، وإن كانت شخصياته قد طرحت أفكاراً قوية لكن تظل المعالجة السينمائية والسرد ضعيفاً أو سهلاً.
بقي الإشارة إلي فيلم الإفتتاح «زاتوبك» عن البطل التشيكي إيميل زاتوبك الذي حصد الميدالية الذهبية في الأولمبياد أربع مرات. صحيح أنه كان خارج المسابقات والتنافس، لكنه كان ضمن الأفلام المسموح لها بتصويت الجمهور، وقد فاز فعلاً بالجائزة، وقد منحته أنا أيضاً خمس درجات ليلة الإفتتاح، لأهمية موضوعه، وقوة معالجته في البناء السردي المشوق، وأداء أبطاله الرائع. عمل سينمائي بديع، ملهم على المستوى الشخصي، ويمكن عرضه في العديد من البلدان، وليس فقط في جمهورية التشيك.
عموما يُحسب لمنظمي مهرجان كارلوفي فاري أنهم في البرمجة هذا العام نقلوا لنا صورة لما يحدث في السينما حول العالم، وكيف يُفكر المخرجون والمبدعون؟! ماذا يشغلهم؟ همومهم وهواجسهم التي كشفت عن اهتمام متزايد بالعلاقات الأسرية، حيث احتلت هذه التيمة المرتبة الأولى بين موضوعات الأفلام المتنافسة، وهو أمر يحمل دلالة كبيرة لا تخفى على أحد.