ما بين عصرنا في عالمنا العربي وبين عصر فرنسا موليير
بهجت العبيديالنفس الإنسانية واحدة في بقاع الدنيا، وهذا الذي يفسر تفاعل وتأثر جنس الإنسان في العالم بما يبدعه المبدعون في مختلف الثقافات وكل الحضارات، وما ذلك إلا لكون هذا الإبداع يعبر عن النفس البشرية، ويسبر أغوار تلك النفس المشتركة بين بني البشر. وهو أيضا ما يؤكد أن تاريخ نضال الإنسان في التحضر هو ميراث مشترك! لا يخص جنس دون جنس، ولا أبناء حضارة دون حضارة، وأن ارتباط هذا الإنتاج ببيئة المبدع، لم تنزع عنه صفة المشترك الإنساني.
عانى المسرحي والشاعر الفرنسي الشهير جُون بَاتِيسْت بُوكْلَان الملقب ب "مُولْيير" والذي عاش في القرن السابع عشر في عصر ملك فرنسا الشهير لويس الرابع عشر معاناة شديدة نتيجة للأفكار التي كانت منتشرة في عصره، والتي كانت ترى في الفن ضربا من المجون، وفي المسرح نوعا من الفسق، ومن التمثيل شيئا من التفاهة، ولكن تلك المعاناة التي تركت آثارها على نفسية الشاعر وجسده، لم تمنعه من الاستمرار في الإبداع، والجهاد في سبيل انتشال العقل الفرنسي من وحل الضيق إلى رحابة التفكير، وحرية الإبداع.
حينما أنظر في عصر المسرحي الفذ موليير، أرى بأم عيني ما يحدث في عالمنا العربي، وفي القلب منه مصر، التي إن نهضت في أي مجال من المجالات نهضت بها ومعها الأمة، أرى في مجتمعنا، كما في عصر موليير بفرنسا ذلك الفهم السقيم لأهمية الفنون، وذلك العقل المغلق على فهم محدود للدين؛ يجعله في مواجهة حتمية - ظالمة ووهمية - مع الآداب، وذاك التفسير السطحي للإبداع، وهو ما يضرب العقل الجدلي في المخيلة الجمعية للشعب المصري والأمة العربية في الصميم، ويخلق مجتمعا يسمع الصوت ولا ينتبه إلى صداه.
اقرأ أيضاً
يظل دور المثقف حتمي في محاربة الأفكار الخاطئة، وفي إعلاء قيمة العقل، وفي تصحيح المفاهيم التي تؤدي إلى الانغلاق، وكان هذا هو ما قام به رواد عصر النهضة الأوروبي، الذين حطموا تابوهات ظل الناس يدورون في فلكلها قرونا طويلة، فلم يحصدوا منها إلا التخلف، ولم يجنوا منها إلا المعاناة والآلام. وسار على نفس درب هؤلاء فريق من أعلامنا على رأسهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، هذا الفريق الذي خطى في هذه الطريق خطوات؛ نراها معتبرة، لم يكتمل بها المشوار الطويل، وإذا بفريق يعاند الزمن يقف في وجه تلك المسيرة، وإذا به نتيجة لتشابك وتضافر عدة عوامل ينتصر جزئيا، وهنا لابد أن يكون للمثقف دور، وإلا كانت الهزيمة كلية.
من هذا المنطلق كان لابد أن وقوفنا في وجه أحد النواب والذي هو أيضا عضو لجنة التعليم بمجلس النواب، الذي أدلى بتصريحات صحفية سايقة يقول فيها: "اليوم الثقافة مليئة بالمشاكل والأحداث الغربية الوافدة من الأفكار القادمة من السينما، نحن لسنا في حاجة إلى تدريس أعمال نجيب محفوظ بقدر تدريس مناهج التربية القومية والدينية للنشء الجديد".
ووقوفنا ضد ما يخرج من مثل هذا النائب، وأمثاله كثيرون في مجتمعاتنا العربية، لأنهم لا يدركون قيمة مبدعينا، مرة، وقيمة الفنون بوجه عام مرة أخرى، وما تمثله تلك الآثار التي تركوها مرة ثالثة، وينظرون، بنظرة قاصرة، لها باعتبارها نوعا من الخلاعة أو العهر، وهذا هو عينه ما عنينا به أننا رأيناه في عصر المسرحي الفرنسي الشهير موليير، هذا الذي يعيش بيننا من أفكار، وما يقيم في مجتمعنا من فهم، ذلك الذي يمثل كارثة كبرى في فهم قيمة الفنون بشكل عام والأدب بشكل خاص، وهو يعكس ما يعانيه المجتمع من سيطرة أصحاب الأفهام الضيقة، على المشهد في مصر والعالم العربي.
إن هذا الفهم السقيم هو أحد أهم أسباب انتشار الثقافة الهشة في المجتمع العربي، التي بدورها تجعل المجتمع فريسة للأفكار الإرهابية، حيث أن دارس الأدب العظيم - مثل الذي خلفه أديبنا العالمي نحيب محفوظ - يكون صاحب عقلية جدلية، تلك العقلية القادرة على التمييز بين ما يلقى عليها من أفكار، وما يُطْلب منها من أفعال، وما يسعى الآخرون في إسكانه في أفهام أبناء الشعب العربي، وهنا تنتصر تلك العقلية الجدلية، ومن ثم لا يستطيع أصحاب الفهم المنغلق للدين أن يجذبوا إلى طريق التعصب والإرهاب، منتمين جدد.
من البديهي لدى المثقف أنه لو أردنا مجتمعا قويا قادرا على تخطي التحديات والتي منها الحفاظ على شخصيتنا العربية في مواجهة تلك الهجمة على ثقافتنا الخاصة، فلابد من تدريس الفنون الرفيعة والآداب العالية المستوى والتي منها أدب نجيب محفوظ وطه حسين وعباس العقاد ويوسف إدريس وآسيا جبار ومولود فرعون وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونزار قباني وأودنيس وغيرهم من كبار الأدباء المصريين والعرب.
وإذا أردنا نهضة حقيقية فلابد أن يقوم على الأمر في كافة المؤسسات الثقافية العربية هؤلاء الذين يستطيعون تقييم أعمال نجيب محفوظ وغيره من كبار أدبائنا، في ضوء أن الأدب نتاج الأديب، وأن الأديب نتاج البيئة، وأن الأدب يعكس بطريقة فنية المجتمع الذي نشأ فيه، وأن للفنون الرفيعة أهم الأدوار في تكوين الشخصية، بحيث لا يكون لضيقي العقل والرؤية أدنى علاقة بالتعليم الذي هو المكون للعقل الجمعي للأمم، والذي هو صاحب الدور الأول والأهم في تكوين الشخصية، لتكون هناك بداية حقيقية لصياغة عقل عربي واعٍ جدير بأن ينتمي لهذا الوطن الذي مازال يسهم في صنع الحضارة الإنسانية.