في تراثنا العربي .. الفارابي وسيف الدولة الحمداني
بهجت العبيديتظل الثقافة العربية إحدى تلك الثقافات التي أثرت الثقافة الإنسانية، باعتبارها أحد تلك الروافد التي صبت مياها عذبة في نهر عطاء الإنسانية المتجدد، ذلك الذي جعل سهمنا في هذا العطاء سهما نزهو به ونفتخر، وإن كنا نعاني في حاضرنا، نتيجة لعديد العوامل، فإن هذه المعاناة لا تعني عدم وعينا بما قدمنا من تراث فكري، ولا تعني أيضا أننا غير قادرين على معاودة الكَرَّة، لنثري، مع غيرنا من الأمم الحية، الثقافة والحضارة المعاصرة، ولا أن نقدم، في المستقبل، نماذج تشارك في تطور العقل الإنساني، كما شارك أجدادنا، الذين دائما، ما ننظر، وينظر، لهم العالم بعظيم التقدير.
لعله لم تحظ أمة بما حظيت به الأمة العربية من تراث تزهو به في مختلف المجالات وفي عديد العلوم والثقافة بمفهومها الواسع؛ فلقد تحصّلت الأمة العربية على عقول فذة تزهو بها عبر الأجيال، والثابت لدي أن انخراط عديد من الأقوام، ومختلف من الأعراق في تكوين هذه الثقافة كان له أكبر الأثر في الثراء الهائل لتراثنا، حيث استفادت الثقافة العربية من جميع الثقافات التي وصلها الإسلام، وأصبحت ثقافات تلك الأمم المكونة للحضارة العربية روافد تصب في نهر الثقافة العربية الواسع.
إذًا ليس غريبا ولا عجيبا، أن تجد من الأسماء التي نزهو بها في تراث ثقافتتا العربية ليست أسماء عربية، كما هو الشأن - على سبيل المثال - في سيبويه العالم النحوي الكبير، الذي ينتسب إلى بلاد فارس، والذي من ترجمات اسمه: "التفاحي" نسبة إلى التفاح الذي كان شكل بشرته، أو ذو الثلاثين رائحة حيث تميز اللغوي الكبير بحرصه الشديد على التعطر. وعلى شاكلة أول من وضع كتاب في النحو العربي، الكثيرُ ممن أثروا الثقافة العربية وهم ينتمون لأعراق غير عربية، وليس هناك في مثل ذلك من شيء يؤخذ على الثقافة أو التراث.
اقرأ أيضاً
- سيارة نقل السبب.. القصة الكاملة لواقعة استشهاد أمين الشرطةن وإصابة رئيس مباحث
- خطف طفل من السيدة زينب واحتجازه في مطروح
- انقطاع المياه عن بعض مناطق الجيزة نتيجة كسر مفاجئ
- اختباران لا يحق للمتقدم لكلية الشرطة الإعادة فيهما
- 3 اختبارات يحق لك الإعادة بها خلال التقديم في كلية الشرطة .. تعرف عليها
- بتكلفة 4.5 مليون جنيه.. إحلال وتجديد خط مياه الشرب بشارع النيل السياحي بالجيزة
- «الرعاية الصحية»: فحص أكثر من 25 ألف مواطن ضمن حملة «اكشف واطمن»
- «القابضة لمياه الشرب» ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال عيد الأضحى
- رئيس الوزراء يلتقي وفد شركة «سكاتك» النرويجية للطاقة المتجددة
- الداخلية تداهم بؤر الإجرام في مشتهر وطوخ
- مصر تقفز 38 مركزًا بمؤشر أكثر دول العالم أمانًا في 2021 | إنفوجراف
- «مياه المنيا»: حملة للحفاظ على شبكات الصرف الصحي خلال فترة العيد
إننا نزعم أن ما حدث مع الثقافة العربية والتراث العربي، قد حدث مع ثقافات مختلفة أخرى، وإن كانت النسب متفاوتة، ولعل أكثر النماذج وضوحا في عصرنا الراهن، هي الحضارة والثقافة الأمريكية؛ تلك التي ستصبح خلال بضعة قرون تراثا أمريكيا تتناقله الأجيال، وتزهو به، فالواضح كل الوضوح أن الثقافة الأمريكية يقوم على تكوينها الآن العديد من الأعراق والمختلف من الحضارات، حيث تسعى الدولة الأكبر في العالم اليوم إلى إغراء كل العلماء، ومعظم الأدباء والمثقفين، بل أيضا والرياضيين - هذه الفئة التي لم تكن مستهدفة أو مساهمة في الحضارات والتراث للأمم السابقة - للمجيء والعيش والإقامة بالولايات المتحدة الأمريكية للاستفادة من علمهم وثقافتهم وقدراتهم، لتستمر الحضارات - في مثال واضح - في الاستفادة من أبناء الحضارات الأخرى، ولتستمر الدول والأمم الساعية لإقامة حضارة بالحرص كل الحرص على الاستفادة من العقول الفذة؛ والقدرات المتنوعة، والطاقات الكبيرة.
تمر الأيام وتعقبها الشهور والسنوات والقرون، فإذا بكل قوم يفخرون بما تركه أسلافهم من ميراث، وإذا بالتراث يظل محل بحث ودرس، وإذا بالعلماء والأدباء والمفكرين والفلاسفة، قد أصبحوا قِيَمًا يعتز بها ويتباهى أبناء قومهم، ومن ينتسبون لعرقهم، مدللين على قدرة هذه الأمة أو هذا الشعب أو هذا العرق على الإتيان بمثلهم ليساهموا في صنع الحضارة الإنسانية، التي هي ليست نصرا في معارك بل ارتقاء بالإنسان والإنسانية.
ولعل أفضل من يعبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي الشهير نجم عصر التنوير الأوروبي - إن جاز الوصف - "فولتير" الذي يرى أن لوحة فنان أو قصيدة شاعر أو نظرة تأمل لفيلسوف هي أهم وأعظم للتطور والفكر الإنساني من كل انتصارات القادة العسكريين.
ولعل جبران خليل جبران أديبنا وفيلسوفنا العربي الكبير يتفق مع الفيلسوف الفرنسي الشهير في إشارته لمثل هذا في قصيدته الشهيرة المواكب حينما ذكر:
وقل نسينا فخارَ الفاتحينَ وما
ننسى المجانين حتى يغمر الغمرُ
قد كان في قلب ذي القرنين مجزرةٌ
وفي حشاشةِ قيسِ هيكلٌ وقرُ
ففي انتصارات هذا غلبةٌ خفيتْ
وفي انكساراتِ هذا الفوزُ والظفرُ
إنها إشارة إلى أن المشاعر والأحاسيس وما يتتبعها من تجربة إنسانية صادقة ووصف بديع راق أهم مئات المرات من تلك الانتصارات التي يحققها قائد عسكري، أو زعيم أو ملك، ذلك الذي أشار إليه فولتير بأن لوحة بديعة أو قصيدة متقنة أهم لفرنسا من كل ما حققه لويس الرابع عشر من انتصارات.
وإذا كان في عصرنا الحديث تسارعت كل من التشيك وألمانيا والنمسا للفوز بانتساب الأديب الفذ "كافكا" صاحب الرواية الشهيرة "المسخ" إليها، فإن ذلك أيضا ينسحب على الكثير من العقول التي ذخرت بها الثقافة العربية، فبعد العديد من القرون نجد تشابكا في الانتماء، وتقاسما في الفخر؛ ولعل المعلم الثاني - حيث أن أرسطو هو المعلم الأول – "الفارابي"؛ الذي ولد في مدينة فاراب - تلك المدينة المهجورة حاليا والتي تقع في دولة كازاخستان، كان أحد هؤلاء الفلاسفة العرب الذين تنازع على شرف انتمائه لهم كل من القومية الفارسية والقومية التركية، ذلك الذي يعكس قيمة الرجل ومكانته.
فالفارابي الذي ولد في ولد عام 260 هـ/874 م كان شخصية موسوعية ولم يكن يجهل قدراته، ولا مكانته، بل كان يعتز بهما اعتزازا كبيرا، ولعل موقفه مع سيف الدولة الحمداني حينما حضر إليه لأول مرة كاشفا بشكل كبير على اعتزاز الفيلسوف بذاته؛ وذلك حينما سمح له سيف الدولة بالجلوس؛ ليسأله الفارابي : أأجلس حيث أنا أم حيث أنت؟
فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟
فقال حيث أنت .
فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه، حتى أخرجه عنه.
وكان على رأس سيف الدولة مماليك، ولهم معهم لسان خاص يشاورهم به، قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني سائله في أشياء، إن لم يعرف بها فأحرقوا به.
فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر، فإن الأمور بعواقبها.
فتعجب سيف الدولة، وقال له: أتحسن بهذا اللسان. فقال: نعم، أحسن بأكثر من سبعين لسانًا .
فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء حاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو، وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل، وبقي يتكلم وحده. ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، وصرفهم سيف الدولة، وخلا به.
فقال:
هل لك أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ قال: نعم .
فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل من هو من أهل هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر، وقال له: أخطأت .
فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصنعة شيئًا؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، وفتحها، وأخرج منها عيدانًا، فركبها، ثم ضرب بها، فضحك كل من في المجلس، ثم فكها غير تركيبها، وضرب بها، فبكى كل من في المجلس، ثم فكها وركبها تركيبًا آخر، وضرب بها فنام من في المجلس حتى البواب، فتركهم نيامًا وخرج.
ذلك الموقف الذي يعكس المعارف الموسوعية لأبي نصر الفارابي؛ الذي من حيث التراتب يعد الفيلسوف الثاني - بعد الكندي - في الثقافة العربية، أما من حيث الأهمية فيعد الفارابي - المعلم الثاني، بعد أرسطو المعلم الأول - هو مؤسس الفلسفة العربية، كما كان الممهد لظهور كل من الشيخ الرئيس ابن سينا وابن رشد لما كان له من أثر في الفيلسوفين العربيين الكبيرين.
إن مؤسس الفلسفة العربية أبا نصر محمد الفارابي الذي ولد عام 260 هـ/874 م في فاراب في إقليم تركستان (كازاخستان حاليًا) وتوفي عام 339 هـ/950م. لم يكن فيلسوفا فقط، بل كان عالما موسوعيا شغلت اهتماماته كل ما كان موجودا في عصره من علوم ومعارف ذلك الزمان، ومما يميز الفيلسوف العربي الكبير هو حرصه على التعلم طوال حياته، مطبقا المقولة الشهيرة "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" فبعد أن عكف في مسقط رأسه على دراسة طائفة من مواد العلوم والرياضيات والآداب والفلسفة واللغات وعلى الأخص التركية بجانب معرفته اللغات العربية والفارسية والرومانية. توجه في سن الخمسين إلى العراق وكان ذلك في حوالي سنة 310 هجرية ، حيث أتم الدراسات التي كان قد بدأ فيها في مسقط رأسه وأضاف إليها مواد أخرى كثيرة، فدرس في حرّان الفلسفة والمنطق والطب على الطبيب المنطقي المسيحي يوحنا بن حيلان، ودرس في بغداد الفلسفة والمنطق على أبي بشر متى بن يونس، وهو مسيحي كان حينئذ من أشهر مترجمي الكتب اليونانية ومن أشهر الباحثين في المنطق، ودرس في بغداد كذلك العلوم اللسانية العربية على ابن السراج، وأتيح له فيها أيضًا دراسة الموسيقى وإتمام دراساته في اللغات والطب والعلوم والرياضيات.
لقد عمل الفيلسوف العربي الكبير على التوفيق ما بين الفلسفة والدين، وكان يرى أن كل منهم يوصل لحقيقة واحدة وهي الله سبحانه وتعالى حيث أن الوحي والعقل كلاهما من صنع الله الخالق ومن ثم لابد أن تكون النتيجة النهائية التي يصل إليها العقل المتأمل - الفيلسوف - هي نفس نتيجة الوحي التي هي وسيلة العامة في الوصول إلى الله.
ومن هنا حاول الفارابي أن يوفق بين كل من أفلاطون وأرسطو، في رسالته "الجمع بين رأيي الحكيمين"، تلك المحاولة التي بنيت على خطأ لم يكن لأبي نصر فيه شيء، حيث اعتمد على ترجمة منسوبة لأرسطو لم تكن دقيقة، حيث اعتمد في الحديث عن أرسطو على كتاب "إيثولوجيا" غير مدرك أن هذا الكتاب ليس لأرسطو ولكنه من موسوعات أفلاطونية.
ومع ذلك ظل عدد كبير من المفكرين والباحثين، المعاصرين بخاصة الذين اطّلعوا على حقيقة الأمر على اهتمامهم بكتاب الفارابي، ولم يكن هذا نابعًا لديهم من اقتناع بأنه محق في موضوعه ومقارنته، بل لاعتبارهم - كما يقول الدكتور ألبير نصري نادر، الذي قام بتحقيق معاصر للكتاب - أن «لهذا الكتاب قيمة تاريخية كبرى، اذ أنه يوضح لنا مدى اطلاع الفارابي على الترجمات العربية لبعض كتب الفلسفة اليونانية، لا سيما كتب افلاطون وأرسطو، ولو أنه اطلع ايضًا على بعض «تاسوعات» أفلوطين من دون أن يعلم انها له، كما أن هذا الكتاب يبيّن لنا كيف استخدم الفارابي هذه الترجمات في التوفيق بين رأيي الحكيمين».
إن محاولات التوفيق بين العقل والنقل، كانت دليلا على صراع فكري وديني عنيد كان قائمًا، وسنجد لهذه المعركة امتدادا عند أبي حامد الغزالي، وتحديدًا ضد الفارابي وبعده ابن سينا، في كتابه الأشهر «تهافت الفلاسفة» والذي سيرد عليه لاحقًا ابن رشد في «تهافت التهافت». والمعركة كلها كانت اذًا قائمة حول العقل الذي كان يرتبط بفلسفة أرسطو العقلانية. ومن هنا كان يهمّ الفلاسفة المسلمون أن يبيّنوا أن العقل لا يتنافى مع الدين.