«أخبار من اللامكان» تُوثيق للذاكرة الجمعية بمهرجان «قابس سينما فن»
د. أمل الجمل تونسفُتح الباب أمامي فوجدتني في ممر طويل مُظلم، لكن الضوء القادم من فتحة الباب أظهر لي بعض النقوش والخربشات على السقف وفتحتات متعددة كأنها أبواب غرف، فبدا الأمر كأنني أمام لوحة تشكيلية سريالية. بينما الحقيقة - التي أخبرتني بها الفتاة الشابة المرافقة لي - أننا في المقر السابق للحزب الحاكم في مدينة قابس الذي احترق أثناء الثورة التونسية، وتُرك على حالته، ثم تحول بفضل الشراكة بين منظمي مهرجان «قابس سينما فن» وبين الفنانة التونسية انتصار بلعيد والفنان الألماني موريتز هاجيدرون إلي معرض فني ذو خصوصية كبيرة بعنوان «أخبار من اللامكان».
في كل غرفة ستواجهك مجموعة من الحكايات المروية عبر تقنيات التصوير الفوتوغرافي الممزوج بتوظيف للمؤثرات الصوتية بطريقة مغايرة تميل إلي الإقتصاد والمعالجة الفنية المختلفة التي تشي بالتجريب والبحث الدائمين لتوثق لمحات من تاريخ هذا البلد، وكأن المعرض مساءلة للواقع، فمثلاً يستقبلك في البداية لقطة بصرية لمدينة قابس، ثم مجموعة صور لناس من أهل قابس وسكانها من مختلف الجنسيات عبر العصور ومراحلها التاريخية المختلفة والتي تكشف عن فترات الاحتلال التي مرت بها المدينة العريقة، ستجد لقطات فيديو للماراثون الذي أقيم بالمدينة، ولقطات للمصنع الكيماوي الذي تسبب في كارثة التلوث البيئي للمدينة، والذي نجم عنه ضحايا كُثر.
اقرأ أيضاً
في معرض «أخبار من اللامكان» ستتعرف على شخصية وهوية مخرجة سينمائية وفنانة بصرية من تونس هى انتصار بلعيد التي تُسائل من خلال أعمالها الفنية عوالم الإدراك الحسي ومفهوم الزمن، كما تهتم بتاريخ الوجود البشري والذاكرة الجماعية والفردية، في حين يهتم الفنان الألماني موريتز هاجيدرون بالتجريب في تقنيات التصوير الفوتوغرافي.
هنا، بهذا المعرض يشتغل موريتز وانتصار على وسائط فنية مختلفة، تجمع بين الصور الفوتوغرافية والفيديو والأدوات التي جمّعتها انتصار من الشواطئ التونسية، وتشترك كلّها في تجسيد ذاكرة الأمكنة والناس، تحيلنا على تجارب بشرية لا نعرفها، أو نتعثّر بها يوميا دون أن ندرك أهميتها، دون أن نفكّر أو نعلم أنّها إحدى الدلائل على وجودنا في لحظة ما في تاريخ الإنسانية، وفي مكان ما من هذا الكون الشاسع.
فمثلاً أثناء جولتك بالمعرض تفاجأ بهاتف جوال تم تثبيته في كوة بمنتصف الجدار بينما تتوالي لقطات فيديو صورتها كاميرا ثابتة لقصر الرئيس زين العابدين بن علي الذي احترق أيضاً وتهدمت جدرانه فصارت تطل على البحر.
في غرفة آخرى سترى على أحد الجدران ست لوحات متجاورة ثم على مسافة منهم لوحة واحدة منفردة. إنها مجموعة من اللقطات السلويت/ أو الصور النيجاتيف/ التي تُوثق لفترة حكم بن علي حيث تبدأ بيده وهى تتسلم الحكم من يد الرئيس الأسبق، ثم قسم اليمين، وتحية الشعب والسلام عليه، وانتخاب نفسه، ثم اللقطة الأخيرة المنفردة، ويده على صدره قبل هروبه مباشره حينما قال جملته الشهيرة «الآن أنا فهمتكوا».
بغرفة ثالثة تستقر مجموعة من هياكل الكراسي الحديدية الصدأة في منتصف القاعة المُظلمة المحترقة بينما صوت تصفيق الأكفف الغاضبة يتوالى على شاشة صغيرة انتصبت على الجدار، لكننا لن نرى الصورة واضحة تماماً لأن صناع هذا العمل قرروا مواصلة أسلوبهم المحرض على التفكير وإثارة الخيال والمشتبك مع الواقع والتاريخ بتوظيف تقنية النيجاتيف كأحد الحلول الفنية لتعبير عن رؤيتهم.
بقي أن نشير إلي أن تجربة «أخبار من اللامكان» انطلقت منذ أشهر مضت، لكن منظمي مهرجان «قابس سينما فن» في دورته الثالثة الممتدة من ١٨ - ٢٦ يونيه، ولحرصهم على إقامة علاقة بين الإنسان وبيئه، وكذلك لأنهم حريصون على جذب كافة أشكال الفنون وإتاحة منصة عرض لها جنباً إلي جنب مع العروض والنقاشات السينمائية، لذلك أقنعوا موريتز وانتصار بالمشاركة في «قابس سينما فن» في قاعة لاجورا وهي المقر السابق للحزب الحاكم في مدينة قابس.
هنا، ووفق تصريح إدارة المهرجان، قرّر الفنانان تطوير المشروع حتى يتماشى وخصوصية المكان الذي يحمل ذاكرة نظام قمعيّ امتدّ لعقود ومازال إلى اليوم، بعد عشر سنوات من الثورة، يُعاني الشعب التونسي تبعاته السياسية والاجتماعية. لهذا، نجد في المعرض صورا وأشياء تعود بنا إلى ما قبل 14 يناير، حيث بقايا لنظام بوليسي تمتد أذرعه راهنا في الزمان وكل الأمكنة.
لذلك، ولكل ما سبق، فإن معرض «أخبار من اللامكان» لانتصار بلعيد وموريتز هاجيدرون ينطلق من سؤال مشترك؛ هو: «ما الذي سيتبقى من هذه الحضارة للأجيال القادمة؟ ماذا سيجدون عنّا/ منّا؟ وما الأثر الذي سنتركه للمستقبل؟»، وهو سؤال كوني لا يتوقف عند حدود تونس أو أي شخص مسئول، لكنه مُوجه لنا جميعاً.