في ذكرى وفاة رسول الله.. كيف كان الأسبوع الأخير في حياته ﷺ
فاطمة هشام سالميشهد اليوم الثلاثاء الثامن من شهر يونيو ذكرى غياب قمرها المنير، الذي أضاء الدنيا برحمته وعدله فكان حقًا رحمة للعالمين.
ففي اليوم الثامن من شهر يونيو في عام 632 للميلاد والذي وافق في التقويم الهجري اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشر من الهجرة توفيّ حبيبنا المصطفى الصادق الأمين، محمد ﷺ خاتم النبيين ورسول رب العالمين ليذهب إلى الرفيق الأعلى الذي اختار جواره كما قال وهو يخطب في الناس : (إنَّ عبدًا خيَّره اللهُ بيْنَ أنْ يُؤتيَه مِن زَهرةِ الدُّنيا ما شاء وبيْنَ ما عندَه فاختار ما عندَه)، فبكى أبو بكرٍ وقال : فدَيْناك بآبائِنا وأمَّهاتِنا، فكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المُخيَّرَ وكان أبو بكرٍ أعلَمَنا به.
اليوم وبعد مرور 1389 عامًا على وفاة رسولنا الكريم وشفيعنا يوم الحشر العظيم، تحل علينا ذكرى وفاته لتبكي قلوبنا اشتياقًا للقائه والشرب من حوضه الشريف شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، هذا الرسول الكريم الذي حمل الرسالة وأدى الأمانة وكشف الغمة ونصح الأمة وكان رحمة الله المهداة للبشرية، فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
اقرأ أيضاً
اليوم ذكرى رحيل الرسول ﷺ بعد أن أبلغ رسالات ربه وأرسى قواعد الدين الحنيف الذي به تستقيم الحياة في كل زمان ومكان، ولد الرسول ﷺ وعاش ومات في شبه الجزيرة العربية ولكن دعوته ودينه انتشرا في أرجاء المعمورة كلها، ليصبح تعداد المسلمين الذين يتبعون الرسول الأمين ما يزيد عن 1.9 مليار مسلم حول العالم، وهذا إنما يدل على صدق هذا النبي وصدق ما جاء به، قال تعالى واصفًا نبيه في محكم آياته ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾.
نسب سيدنا محمد
أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (واسمه شيبة) بن هاشم (واسمه عمرو) بن عبد مناف (واسمه المغيرة) بن قصي (واسمه زيد) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (واسمه قيس) وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة (واسمه عامر) بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
ويقول ﷺ واصفًا نسبه الشريف (إنَّ اللَّهَ اصطفى مِن ولدِ إبراهيمَ، إسماعيلَ ، واصطَفى من ولدِ إسماعيلَ بَني كنانةَ، واصطَفى من بَني كنانةَ قُرَيْشًا، واصطفى من قُرَيْشٍ بَني هاشمٍ، واصطَفاني من بَني هاشمٍ)، فهو أفضلُ الخلقِ نَفْسًا، وأفضَلُهم نسَبًا؛ اصطفاه اللهُ تعالى مِن أشرَفِ الأنسابِ وأكرَمِها، ليكون خاتم الأنبياء.
مولده:
ولد الرسول ﷺ في يوم الإثنين الموافق شهر12 ربيع الأول 53 قبل الهجرة، والذي يقابله في التقويم الميلادي 22 من شهر أبريل 571 للميلاد في مكة المكرمة، بشعب بني هاشم، في قبيلة قريش، وقد ولد ﷺ يتيمًا، حيث توفي والده عبد الله ودفن في المدينة المنورة، والنبي ﷺ جنين في بطن والدته، ولم يكن مولد الرسول ﷺ عاديًا إذ تقول أمه آمنة بنت وهب تصف لحظة ولادته أنَّه خرَجَ منها نورٌ أضاءتْ له قُصورُ الشامِ، ويقول ﷺ في حديثه الصحيح (إنِّي عندَ اللهِ مَكتوبٌ بخاتَمِ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لِمُنْجَدِلٌ في طينتِه وسأُخبِرُكم بأوَّلِ ذلك : دعوةُ أبي إبراهيمَ وبِشارةُ عيسى ورؤيا أمِّي الَّتي رأَتْ حينَ وضَعَتْني أنَّه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ لها منه قصورُ الشَّامِ).
حياة رسول الله ﷺ:
حياة الرسول ﷺ عامرة بالقصص والمواقف التي هي هدي كل مسلم سواء في الأمور الدينية أو الأمور الدنيوية، وقد كان النبي ﷺ ذو خلق عظيم كما قال الله تعالى واصفًا نبيه في قرآنه: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).
وفي حياة النبي ﷺ صور كثير تدل على أنه النبي المصطفى الذي بشر الله به في الإنجيل والتوارة، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين ورسالته لكل العالمين وأنه مرسل للثقلين الإنس والجان، كما قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
ولا تسعنا الأحرف لنصف الرسول ﷺ، أو لنحكي عن حياته، فماذا عسانا نقول، هل نحكي عن جمال طليعته أم نسرد حسن شمائله أم نكتب عن مواقفه التي لا تنبع إلا من نفس نبي مصطفى من الله، فمنذ اللحطة الأولى لميلاده كان ﷺ رحمة وبركة ونور لهذه الدنيا بكل ما فيها من بشر وحجر وشجر، وبعد مماته ظل نبراسًا تتهدي به الأمم وتنصلح به النفوس وتقوم به الحياة.
فالذي يقرأ في سيرة الحبيب المصطفى ويدرس شخصيته سيعلم أنه أمام أعظم شخصية خلقها الله، شخصية فريدة وفذة تجمع بين كم هائل من الشمائل الحميدة والمحاسن الأخلاق الكريمة في توازن عبقري لا يمكن أن تجده في أي بشر سواه، فقد كانت شخصيته ﷺ ذات توازن عجيب فلا تجد صفة تكاد تغلب على صفة، بل لكل مقام مقال، فيرقى ﷺ إلى الكمال البشري الذي هو أحد أبرز دلائل نبوته.
ولأن اليوم هو ذكرى وفاة الحبيب المصطفى، لذا سنستعرض معكم صورًا من اللحظات الأخيرة لهذا النبي الذي أفنى عمره في دعوة العباد للرجوع إلى خالقهم وفي نشر كل خلق حميد والحث على مكارم الأخلاق والتذكرة بنعيم الله الذي أعده للمؤمنين والإنذار بوعيد الله الذي أعده للكافرين، عاش النبي ﷺ ليرحم الضعيف، وينصر المظلوم، ويحنو على اليتيم، ويعطي الفقير، ويعطف على الصغير، ويكون رحمة الله للعالمين.
اللحظات الأخيرة في حياة رسول الله ﷺ:
هذه هي اللحظات الأكثر حزنًا التي تشهدها الدنيا منذ 1389، فماذا بعد موت رسول الله ﷺ يستحق الحزن والبكاء عليه في هذه الدنيا، فكل شيء بعده يهون، وكل ما دونه هين.
أحس النبي ﷺ باقتراب أجله ودنو ساعته، ويظهر هذا جليًا في حجة الوداع وسميت بهذا الاسم لأنها الحجة الأولى والأخيرة التي حجها الرسول ﷺ بعد فتح مكة، وخطب فيها الرسول ﷺ خطبة الوداع التي ألقها في يوم عرفة من جبل الرحمة في اليوم التاسع من ذي الحجة، في السنة العاشرة من الهجرة، والتي توافق السادس من شهر مارس عام 632 للميلاد.
وقد ودع النبي ﷺ الناس في هذه الخطبة وأوصاهم باتباع دينهم الإسلامي وتبليغه للأمم من بعده.
خطبة الوداع:
"الحمدُ لله نحمدُهُ وَنَسْتَعِينُه، ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنْفُسِنا ومِنْ سيّئآتِ أعْمَالِنَا مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضَلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحْده لا شريك له، وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه. أوصيكُم عبادَ الله بتقوى الله، وأحثّكم على طاعته! وأستفتح بالذي هو خير.
أَمَّا بعد، أيّهَا النّاس، اسْمَعُوا منّي أُبّينْ لَكُمْ، فَإنّيَ لاَ أَدْرِي، لعَليّ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا، في مَوْقِفي هذا، أَيُهَا النَّاس، إنّ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَليكُمْ حَرَامٌ إلى أنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِ كُمْ هَذَا في بَلَدِكُم هَذَا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانةٌ فليؤُدِّها إلى مَنْ ائْتمَنَهُ عَلَيها، وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وقضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عمي العباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم عامر ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قَوَدٌ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية.
أما بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم أيها الناس ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض و﴿ إِنَ عِدَّةَ الشهور عند اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً ﴾ منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد أيها الناس، إن لِنسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حقاً، ولَكُمْ عَلَيْهِنّ حقّ، لَكُمْ عَلَيْهِنّ ألا يُوطْئنَ فُرُشَكُمْ غيرَكم وَلا يُدْخِلْنَ أحَداً تكرَهُونَهُ بيوتَكُمْ، ولا يأتينَ بِفَاحِشَة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي.
أَيهَا النّاسُ، إنّما المُؤمِنُونَ إخْوةٌ، فَلاَ يَحِلُّ لامرئٍ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طيبِ نفْسٍ منهُ، أَلاَ هَلْ بلّغْتُ، اللّهُم اشْهَدْ، فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض فَإنّي قَدْ تَركْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذتمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، كِتَابَ اللهِ وَ سُنَّة نَبيّه، أَلاَ هَلْ بلّغتُ، اللّهمّ اشْهَدْ.
أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إن أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد" قَالُوا: نَعَمْ قَال: فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ والسلامُ عليكم ورحمة الله".
اختيار الرسول ﷺ للرفيق الأعلى:
كان ﷺ متشوقًا للقاء ربه، عاش ﷺ هذه الحياة ليبلغ رسالة الله، ويدعو إلى الله، ويكون عبدًا طائعًا لله، لا يغضب إلا لله، ويحب في الله فكانت حياته كلها لله، ولذا عندما استشعر قرب الرحيل، وحينما خيره الله بالبقاء في هذه الحياة ما شاء أن يحيا، أو الرفيق الأعلى، لم يتردد رسول الله ﷺ في اختيار الرفيق الأعلى.
ففي ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة النبوية، وقبل أن يُتوفَّى رسول الله ﷺ بخمس، خطب فى الناس، وذكر لهم في خطبته: أن عبداً خيره الله عز وجل بين الدنيا وبين ما عنده سبحانه، فاختار ذلك العبد ما عند الله عز وجل، وكان المقصود بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروي هذا الحديث أبي سعيد الخدري رضي الله فيقول: جلس رسول الله ﷺ على المِنبر فقال: (إنّ عبداً خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده. فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمّهاتنا، فعجبنا له، وقال النّاس: انظروا إلى هذا الشّيخ، يخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخَيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به) رواه البخاري.
مرض الرسول ﷺ:
في اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11 هـ وقد وافق هذا اليوم يوم الإثنين - شهد رسول الله ﷺ جنازة في البقيع، فلما رجع - وهو في الطريق - أخذه صداع في رأسه، وَاتَّقَدَتْ عَلَيْهِ الْحَرَارَةُ، وَبَدَتْ عَلَيْهِ مَعَالِمُ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ، وَاسْتَمَرَّتْ مَعَهُ تِلْكَ الْحُمَّى أَيَّامًا عِدَّةً، وَقد كَانَ هَذَا الْمَرَضُ وَتِلْكَ الْحُمَّى مِنْ آثَارِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا يَوْمَ خَيْبَرٍ عَلَى يَدِ الْمَرْأَةِ الْيَهُودِيَّةِ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " مازالتْ أكْلَةُ خيبرَ تعاوِدُنِي كلَّ عامٍ ، حتى كان هذا أوانُ قطْعِ أَبْهَرِي" أَيْ عُرُوقِي، فَرَسُولُ الْهُدَى لَقِيَ رَبَّهُ شَهِيدًا قَتِيلًا مَسْمُومًا بَعْدَ مُؤَامَرَةٍ دَنِيئَةٍ حَاكَتْهَا أَيَادِي غَدْرِ وَخِيَانَةِ قَتَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْيَهُودِ لعنهم الله في كل زمان ومكان.
والتَّوْفيقُ بيْنَ موت النبي ﷺ متأثرًا بسم هذه الشاه وبيْنَ قَولِ اللهِ تعالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]{: أنَّه مَعْصومٌ مِن القَتلِ على وَجْهِ القَهرِ والغَلَبةِ، وأنَّه بعْدَ هذه الأكْلةِ مكَثَ سِنينَ يُجاهِدُ حتَّى فتَحَ اللهُ عليه الفُتوحاتِ، وآمَنَ أهلُ الجَزيرةِ، وبَقيَ أثَرُ السُّمِّ حتَّى أكرَمَه اللهُ بالشَّهادةِ بسَببِه، فجمع مقام النبوة والشهادة صلوات ربي وسلامه عليه.
أيام النبي ﷺ الأخيرة:
أثقل المرض رسول الله ﷺ، فجعل يسأل أزواجه : «أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ » ففهمن مراده، فأذن له أن يكون حيث شاء، فانتقل إلى بيت حبيبته عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبًا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته.
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَيْ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، زَادَتِ الْحُمَّى فِي بَدَنِهِ الشريف ﷺ، وَاشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: هَرِيقُوا عَلَيَّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ، أي: اسكبوا علي الماء البارد حتى أفيق وأخرج إلى الناس فأوصيهم وأخذ عليهم عهدًا، فَفَعَلُوا فَخَرَجَ ﷺ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ بَيْنَ عَلِيٍّ بن أبي طالب وَالْعَبَّاسِ عمه، وقد كان ﷺ عَاصِبًا رَأْسَهُ، تَخُطُّ قَدَمَاهُ فِي الْأَرْضِ، أي: أنه ﷺ كان يربط رأسه ويستند إلى علي وعمه العباس ولا يقدر على رفع خطواته فهو يسحبها سحبًا من شدة الإعياء والتعب.
وجَلَسَ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ قَدْ هَدَّهُ الْإِعْيَاءُ وَالْمَرَضُ، يَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَحْيَا قُلُوبَهُمْ وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ينظرون إلى صاحبهم ونبيّهم وحبيب قلوبهم ومعلمهم وقدوتهم وقائدهم صلوات ربي وسلامه عليه.
وقد كَانَ أَوَّلُ مَا قَالَ ﷺ: "لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ".
ثُمَّ عَرَضَ نَفْسَهُ الشريفة صلوات ربي وسلامه عليه لِلْقِصَاصِ فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالَ "فَدَيْنَاكَ بِآباَئِنَا وَأُمَّهَاتِنَا" بَكَى الصِّدِّيقُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَقَاصِدِ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفَهِمَ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْإِشَارَةِ.
وَجاء اليوم التالي يَوْمِ الْخَمِيسِ، ليشْتَدَّ الْوَجَعُ برسول الله ﷺ فَيخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَالْحُمَّى قَدْ تَخَوَّنَتْ جِسْمَهُ فَيوْصَيهمْ بِثَلَاثِ وَصَايَا:
الْوَصِيَّةُ الْأُولَى : إِخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ "لَا يَجْتَمِعُ فِي الْجَزِيرَةِ دِينَانِ".
الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ : إِجَازَةُ الْوُفُودِ بِنَحْوِ مَا كَانَ يُجْيزُهُم.
الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ: إِنْقَاذُ جَيْشِ أُسَامَةَ.
ثُمَّ جَاءَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَصَلَّى النبي ﷺ بِالنَّاسِ فَقَرَأَ بِهِمْ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}، وَعِنْدَ الْعِشَاءِ ثَقُلَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، فَفَعَلُوا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ.
فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، فَقَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، فَاغْتَسَلَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ أَبُوبَكْرٍ بَقِيَّةَ الْأَيَّامِ.
هكذا كان ﷺ في آخر أيامه وفي لحظاته الأخيرة لا يشغل باله إلا سؤال واحد (أَصَلَّى النَّاسُ؟؟)، فهو خير من يعلم أن هذه الصلاة خير من الدنيا وما فيها وأنه لا تهاون في الصلاة ولا عذر لتأخيرها حتى لو كانت هذه لحظات الموت الأخيرة.
عاشَ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ خَوْفًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، يتمنون لو يفتدونه بأنفسهم وأهليهم وأولادهم ومالهم، ولا يصيب الرسول ﷺ نصب ولا ألم وتعب.
وَبزغت شمس يَوْمِ السَّبْتِ: وشعر الرسول ﷺ بخِفَّةً في جسده، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ بِخُرُوجِهِ خَيْرًا وَهَنَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَرَحًا بِرَسُولِ اللهِ واستبشروا بقرب شفاءه.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ السابق ليوم وفاة رسول الله ﷺ: أَعْتَقَ النَّبِيُّ ﷺ غِلْمَانَهُ، وَتَصَدَّقَ بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَهُ، وَوَهَبَ أَسْلِحَتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، كأنه ﷺ يتحرر من كل ما يملكه من متاع الدنيا الزائل، ليلقى الله لا يملك شيئًا من هذه الدنيا الدنية الملعونة الفانية.
يوم وفاة رسول الله ﷺ:
بزَغَ فَجْرُ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ، يوم المصيبة العظمى، والفاجعة الكبرى، فاجعة لا عزاء لها، ولا يمكن أن ينساها التاريخ، أو يكفنها الزمان أبد الدهر.
جاء يوم الإثنين وجاء معه الحزن الأكبر لهذه الأمة، فكل مصاب بعد فقدنا لحبيبنا المصطفى هين.
كان يوم الإثنين الموافق الثاني عشر من شهر ربيع الأول في العام الـ11 من الهجرة، والذي يشابه يوم مولده مع اختلاف العام، هو آخِرُ يَوْمٍ مِنْ حَيَاتِهِ ﷺ.
وَبَيْنَمَا الصَّحْبُ الْكِرَامُ صُفُوفٌ خَلْفَ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ كَشَفَ سِتْرَةَ حُجْرَتِهِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ كَأَنَّ وَجْهَهُ الْقَمَرُ إِذَا كَمُلَ بَدْرُهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ هَمُّوا أَنْ يُفْتَنُوا فِي صَلَاتِهِمْ فَرَحًا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْر
فَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ عَادَ إِلَى صِحَّتِهِ وَتَشَافَى مِنْ مَرَضِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ النَّظَرَةَ هِيَ النَّظْرَةُ الْأَخِيرَةُ، نَظْرَةُ الْوَدَاعِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْحُجْرَةِ أَبَدًا.
وَلَمَّا ارْتَفَعَ الضُّحَى دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ دَعَاهَا فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَضَحِكَتْ، وتَقُولُ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَسَأَلْنَاهَا عَنْ ذَلِكَ -أَيْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ: "سَارَّنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِهِ يَتْبَعُهُ فَضَحِكْتُ".
ثُمَّ دَعَا النَّبِيُّ - ﷺ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَأَوْصَى بِهِمَا خَيْرًا، وَدَعَا أَزْوَاجَهُ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ.
وَفِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ دَخَلَ عَلَيْهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّه وَابْنُ حِبِّهِ، وَكَانَ - ﷺ ُ- قَدْ جَهَّزَ لَهُ جَيْشًا وَأَمَرَهُ فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ - ﷺ َ- رَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا سَمِعَ لَهُ كَلَامًا، يَرْفَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، يَرْفَعُهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا، قَالَ أُسَامَةُ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي - ﷺ َ-.
وَأَسْنَدَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي حِجْرِهَا فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ - ﷺ -، تَقُولُ عَائِشَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ، فَاسْتَنَّ بِهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ مُسْتَنًّا.
آخر وصايا النبي ﷺ قبل وفاته:
كان النَّبِيُّ ﷺ وَسَلَّمَ يُصَارِعُ وَيَتَجَرَّعُ ألم سكرات الموت، ولكنه ما زال مشغول الخاطر بأمته يريد نجاتهم، وصلاحهم، ويريد إنقاذهم من النار، لذا كانت آخر وصاياه لهم في لحظاته الأخيرة أن أوصاهم بأهم وَأَعْظَمِ أَمْرٍ فِي هَذَا الدِّينِ فَأَخَذَ يُنَادِي بِصَوْتٍ مُنْكَسِرٍ قَدْ أَهَدَّهُ الْمَرَضُ:
"الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ."
سكرات الموت:
عانى الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه من سكرات الموت الشديدة، واشتد الْوَجَعُ على رسول الله ﷺ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الْكَرْبَ الشَّدِيدَ الَّذِي يَتَغَشَّى أَبَاهَا قَالَتْ: وَاكَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ.
وبدأ رسول اللهِ ﷺ بالاحتضار، وَأَزَفَ الرَّحِيلُ، وَحَضَرَ الْأَجَلُ، وَحَانَ الْفِرَاقُ وَالْوَدَاعُ، جعل ﷺ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي رَكْوَةٍ فِيهَا مَاءٌ فَيَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ:لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ.
ثُمَّ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ النَّزْعُ فَعَرِقَ جَبِينُهُ، وَظَهَرَ أَنِينُهُ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَحَشْرَجَ صَدْرُهُ، وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، وَتَشَنَّجَتْ أَصَابِعُهُ حَتَّى بَكَى لِمَصْرَعِهِ مَنْ حَضَرَهُ ثُمَّ رَفَعَ أَصْبُعَهُ السَّبَّابَةَ، وَشَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ السَّقْفِ، وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ فَأَصْغَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ: "{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين} ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى" ثُمَّ مَالَتْ يَدُهُ وَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى..
فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ وَأَخَذَتْ تُنَادِي بِحَسْرَةٍ وَأَلَمٍ: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاه، يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاه، يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ.
فلما دفن قالت فاطمة - عليها السلام - : يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب..!
حزن الصحابة على وفاة الرسول ﷺ:
مَاتَ رسول الله، مات حَبِيبُ الرَّحْمَنِ ، مَاتَ رَسُولُ الْهُدَى الشَّفِيقُ الرَّحِيمُ بِأُمَّتِهِ، مَاتَ شَمْسُ الْحَيَاةِ وَبَدْرُهَا، مَاتَ مَنْ بَكَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لِمَوْتِهِ.
وَتَسَرَّبَ هَذَا النَّبَأُ الْفَادِحُ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسُرْعَةٍ مُذْهِلَةٍ، وَوَقَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَوْقِفٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَفِي دَهْشَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَقَفُوا فِي دَهْشَةٍ وَحَيْرَةٍ وَهُمْ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، ذلك أن رسول الله لما توفي طاشت العقول فمن الصحابة من خَبِل، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى وكان عمر رضي الله عنه ممن خَبِل، وكان عثمان رضي الله عنه ممن أخرس فكان لا يستطيع أن يتكلم، وكان عليّ رضي الله عنه ممّن أقعد فلم يستطع أن يتحرك، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدًا، وحق له فالمصاب جلل .
اِصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ *** وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
وَإِذَا أَتَتْكَ مُصِيبَةٌ تَشْجَى بِهَا *** فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ