ملامح عن حياة ”محمود بيرم التونسي” في حكاوى الخطاوي
ولد الشاعر بيرم التونسي لعائلة من أصل تونسي، كانت تعيش في مدينة الإسكندرية، بحي السيَّالة، في 23 مارس 1893 وعانى بيرم من تقلب الدنيا عليه بعد وفاة والده، قام بفتح محل يبيع فيه مواد البقالة ليتعيش منه، وفوجئ ذات يوم بالمجلس البلدي في الإسكندرية، وهو يحجز على بيته الجديد، ويطالبه بمبلغ كبير كعوائد عن سنوات لا يعلم عنها شيئًا، وكأن الدنيا أرادت بهذا الحدث أن تعلن عن مولد فنان، فقد اغتاظ بيرم، وقرر أن يرفع راية العصيان ضد المجلس البلدي بقصيدة نشرت كاملة بجريدة (الأهالي) وفي الصفحة الأولى، وكانت أول قصيدة تُنشر لبيرم، وأحدث نشر هذه القصيدة دويًا هائلًا؛ فلم يعد في الإسكندرية – وقتها - من لم يتكلم عنها، أو يحفظها أو يرددها، كما طلب موظفو المجلس البلدي ترجمتها إلى اللغات الأجنبية ليستطيعوا فهمها، فقد كانوا جميعًا من الأجانب.
جاء ذلك خلال الجزء الأول من الحلقة الرابعة والعشرون، من سلسلة حلقات برنامج "حكاوى الخطاوى" الذى أطلقه الدكتور محمد أمين عبد الصمد، الباحث في الانثروبولوجيا الثقافية، عبر موقع اليوتيوب، بهدف المساهمة فى تنمية ورفع الوعى الثقافى لدى أفراد المجتمع بالموروث الشعبى فى مختلف المجالات .
وتابع الدكتور محمد أمين: بدأ بيرم بعد هذه القصيدة يتجه إلى الأدب؛ فترك التجارة واهتم بتأليف الشعر، لكنه أدرك بعد فترة أن الشعر وسيلة محدودة الانتشار بين شعب 95 في المائة منه لا يقرءون فاتجه إلى الزجل، ليقرب أفكاره إلى أذهان الغالبية العظمي من المصريين، وكانت أزجاله الأولى مليئة بالدعابة والنقد الصريح الذي يستهدف العلاج السريع لعيوب المجتمع، وكان يعتمد في لقطاته الزجلية على السرد القصصي، ليصور العلاقات الزوجية، ومشكلات الطلاق، والعادات الاجتماعية الساذجة الموجودة آنذاك، مثل حفلات الولادة والطهور والزار، وبسبب بعض أشعار بيرم والتي انتقد فيها الأسرة العلوية الحاكمة لمصر وقتها، صدر الأمر بإبعاد بيرم التونسي من مصر، ونفيه إلى وطن أجداده في تونس يوم 25 أغسطس عام 1920 وعندما تم التضييق عليه في تونس أيضًا، وتنكر أهله له، سافر إلى فرنسا وما إن وصل إلى ميناء مارسيليا الذي لم يحتمل المكوث فيه أكثر من ثلاثة أيام، انتقل بعدها إلى باريس، التي شعر فيها بقسوة الغربة ولسعة البرد الشديد.
وأضاف باحث الانثروبولوجيا الثقافية، أن بيرم فشل في الحصول على عمل في باريس، ولكنه حن لمصر، وبدأ في البحث عن طريقة تساعده في العودة إلى مصر فيلجأ إلى اختصار اسمه في جواز السفر الجديد الذي كان يحمل ختم القنصلية البريطانية، ويستطيع بهذا الجواز أن يصعد إلى السفينة، وينزل إلى ميناء بورسعيد، وذلك في يوم 27 مارس عام 1922وقرر بيرم ألا يغامر بالنزول إلى الشارع، وأن ينتظر لحظة هدوء تسود مصر، لينهي مشكلة إبعاده، ويتفق مع صاحب جريدة الشباب بأن يرسل للجريدة كل أسبوع معظم مواد العدد، بشرط ألا يضع اسمه على الأزجال السياسية وواصل بيرم كتابة الأزجال السياسية التي ليست فقط بها نقد للحكم بل تتخطى ذلك بكثير، وأدى تعقد الأحوال السياسية وتشابكها آنذاك، وانشغال القصر بالصراعات مع المعارضة إلى اطمئنان بيرم وإلى تماديه في كتابة أزجاله التي تترجم إحساسه بالضيق والثورة، ويختفي بيرم في مصر لمدة 14 شهرًا، إلى أن يتم إكتشاف أمر دخوله مصر متسللًا، ويتم القبض عليه للمرة الثانية، ويوضع يوم 25 مايو عام 1923 على ظهر أول سفينة تغادر البلاد إلى فرنسا.
وأوضح عبد الصمد خلال الحلقة، أنه مرت تسع سنوات قضاها بيرم في فرنسا بعد نفيه من مصر للمرة الثانية؛ لا ينقطع فيها بيرم رغم الألم النفسي والجسدي الذي عاناه من الانقطاع عن تأليف أبدع الأزجال التي كان يرسلها إلى الصحف وناشري الكتب بصفة مستمرة، ويحاول العودة إلى مصر متسللاً, وبعد رحلة طويلة يصل بورسعيد هاربًا، وكان البوليس مشغول آنذاك بالانتخابات البرلمانية، وينجح بيرم في توصيل زجل إلى صديقه كامل الشناوي، الذي استأذن بدوره أنطون الجميل رئيس تحرير الأهرام لنشره، وبعد اطلاع الجميل عليه، واستئذانه من السلطات بشكل ما، أمر بنشره في الصفحة الأولى، وكان اعتذارًا من بيرم للملك فاروق، حتى يتركه يعيش في مصر، وما أن نشر هذا الزجل حتى أصدر وزير الداخلية أمرًا بتجاهل وجود بيرم في مصر، وفي عام 1950 كانت صحيفة أخبار اليوم تبحث عن أقلام مشهورة تجعلها تقف في وجه المنافسة الحامية بينها وبين الصحف الأخرى، ولهذا اتصلت ببيرم، وطلبت منه أن يمدها كل أسبوع بزجل اجتماعي، ويحتل باستمرار بروزًا عريضًا في الصفحة الأخيرة.
ويواصل الدكتور محمد أمين حديثه قائلا : "كان أول زجل يُنشر لبيرم في أخبار اليوم في مارس عام 1950، هو ما كتبه تحت عنوان "فوضى" وفيه انتقد حياة الشعب المصري التي لا تعرف الدقة والنظام والنظافة. ويمضي بيرم في كتاباته في أخبار اليوم، متناولًا قضايا أخرى مثل: الضياع، والسوق السوداء، وفوضى التليفونات، والإيمان بالخرافات، وفضائح التنويم المغناطيسي، والدعوة لمواصلة تطور المرأة، وأزمة المواصلات، وكانت كتاباته لا تتجاهل القضايا الثقافية، ولهذا رأيناه في أحد أزجاله يناقش قضية الاقتباس من الموسيقى الأجنبية، وكيف يبرر الفنان عملية السطو الواضحة على أساس أنها خطوة لتطوير الموسيقى العربية!! وكأنه يقصد ملحنًا بعينه.!!! وينتهي مشوار بيرم في صحيفة أخبار اليوم في 18 أغسطس عام 1951، ويلتحق بيرم للعمل في جريدة الجمهورية عام 1955، وذلك بعد تركه لجريدة (المصري)، ويكتب فيها في البداية أزجالًا تلفت نظر الثورة إلى الأحوال الاجتماعية التي يجب معالجتها والتصدي لها بصراحة في المجتمع المصري، تم تكريم بيرم التونسي عام 1960 من قبل الرئيس جمال عبد الناصر بمنحه جائزة الدولة، وتوفي بيرم التونسي في العام التالي 1961" .