”لعبة نيوتن”..إلى متى ننتظر؟
نادية جمال"يتكون البناء من مختارات من سلسلة أحداث من قصص حياة الشخصيات، تؤلف خطة إستراتيجية توقظ انفعالات وتعبر عن رؤية خالصة للحياة، يقع حدث بسبب تأثيرات بشرية، وهكذا ترسم الشخصية، لكن اختيار حدث لا يمكن أن يتم عشوائيا أو بلا مبالاة، يجب أن تؤلف، وأن تؤلف في قصة يعني كثيرا، الأمر نفسه الذي يحدث مع الموسيقار، ماذا تضمّن؟ ماذا تستبعد؟ ماذا يجب أن تضع قبل وبعد؟ وكي تجيب على هذه الأسئلة، فإن عليك أن تحدد هدفك، أنت تؤلف أحداثا كي تفعل ماذا؟"
روبرت مكي - كتاب "القصة"
في التلت الثاني من "لعبة نيوتن" نستطيع أن نلمس بسهولة التغير الذي طرأ على بنية المسلسل، وكيف غابت عنه مزايا الحلقات الأولى، فنرى تسريع بأحداث تحتاج إلى بناء، وبطئ شديد في كشف جوانب نحتاج إلى فهمها، إلى الحد الذي يصيبنا بالملل ويجعلنا نفقد الاهتمام بعناصر وشخصيات محورية، كان ظهورها الأول مبشرا، وأقصد هنا شخصيتي "بدر'' و"مؤنس" بالتحديد، وإن كان لسيد رجب النصيب الأكبر من ذلك الشعور.
تشويق بلا هدف
بعد تقديم الشخصيتين في الحلقة السادسة بشيء من الغموض والتشويق المنضبط، انتظرنا جميعا المزيد من تكشف شخصيات "رجب" و"فراج'' بتتابع الحلقات، إلا أن هذا لم يحدث، واكتفى المسلسل بالاستمرار في تقديم مشاهد لإحداث طابع من الارتباك وعدم الأريحية إزاء الشخصيتين، وحتى ومع تكشف المزيد من شخصية "بدر" ونواياه تجاه "حازم" واكتشافنا أنها ليست على هذا القدر من الخطورة والشر الذي اعتقدناه في الحلقة السادسة، لم يكن هذا التكشف مشبعا وكافيا لفهم الشخصية، فمن الحلقة العاشرة ونحن نعلم بهروب ابنته من حوار بين "أمينة" و"حازم"، وتستمر هذه المعلومة في التردد حتى الحلقة العشرين تقريبا، دون أن يُكشف سبب الهروب ولمَ فضلت تركه إن كان يحبها وغيابها طاعن في نفسه إلى هذا الحد؟ لم يقف الأمر عند ذلك، لأكثر من مرة تعرب "أمينة" لحازم عن رغبة "بدر" في مساعدته وإن الأمر لا يتوقف على حاجته للعسل بالأفيون، دون أن يكشف المسلسل كيف لبدر أن يساعد حازم؟ ويساعده على ماذا؟ وحتى بالتقدم في الحلقات إلى الوصول للديالوج بين الطرفين في بيت بدر بعد علم حازم بزواج "هنا" والحديث عن رغبته في تحرير حازم من ألمه عن طريق تحريره من امتلاكه للأشياء أو بالأدق الوقوع في حبها، لم يبدُ الأمر منطقيا وموزونا تماما. بشكل شخصي فقدت الاهتمام بشخصية "بدر" مع التقدم وانتظار المزيد الذي لم يأتِ، وتوقفت علاقتي به على قدرته على إضحاكي في مشاهد معدودة، مع بدأ تحوله لـ "ميم" على السوشيال ميديا.
في الحلقة الثامنة يعرب الشيخ "مؤنس" عن حبه لـ "هنا" بعدما أوقعته في الحديث، وهي بالكاد ظهرت في حياته في الحلقة السادسة، فمتى أوجد هذا الشعور لنفسه طريقا في قلبه؟ لم أجد إجابة سوى إن المسلسل أراد التسريع بهذا الحدث وإن كان مخلاً بالبناء وبالمنطق.
كشف المسلسل ببساطة جيدة جوانب مهمة للتراكبية في شخصية مؤنس، كبكائه في الصلاة تأنيبا لذاته عن ما يكنّه من مشاعر لهنا، غروره وافتخاره بذاته، استخدامه لأموال المركز الإسلامي في تحقيق منافع شخصية تتمثل في محاولته إغراء "بيج زي" لإبعاده عن هنا، وتسلطه وإحكامه السيطرة على زوجته "سارة"، ابتزازها بكارت الدين دائما لردعها عن أي جدال أو رد فعل، يخبرها بقرار الزواج من هنا فنراها تبارك له، مجبرة بفعل سلطة معنوية أقوى في وقعها عليها من أي سلطة مادية.
مع ذلك لا يغيب فتح خطوط درامية مرتبطة بشخصية مؤنس، دون الاهتمام بكشفها، فضلا عن غلقها. نراه يخبر سارة بسفره للقاهرة لأمر هام، دون الكشف عن هذا الأمر، في البداية تصورت إنه جاء لمقابلة حازم وطمأنته حتى يبعد عنه فكرة السفر تماما ويخلو له الجو في استقطاب هنا، لكن خلال المقابلة كشف له عن تركها لمنزله ورغبتها في توقفه عن التدخل في حياتها الشخصية ونقل أخبارها لحازم، وإنه سيحاول إعطائها الجواب والحقيبة إن استطاع، مما لا يعني طمأنته أو ردعه عن السفر بأي شكل.
لم يكشف المسلسل أيضا عن نفوذ مؤنس وموقعه من الجالية العربية والمسلمة في أمريكا، إلا من خلال جملة بسيطة قالها لهنا بإنه بمثابة رئيس المركز الإسلامي. في الحلقة 17 يوم عقد قرانه على هنا، تدخل فتاة يبدو من لهجتها فيما بعد إنها سورية، تلتقطلمؤنس الصور بصحبة زوجته الثانية، تخرج ويخرج ورائها، وتهدده بالإبلاغ عنه وسجنه كما فعل بأخيها، من رد مؤنس بأنه فعل ذلك لمصلحتهم جميعا يمكن القول بإن أخيها قد يكون حاملا لأفكار متطرفة، ويقصد بالمصلحة هي وضعهم كعرب ومسلمين داخل المجتمع الأمريكي. استمر المسلسل في التقدم دون الوقوف على هذا الأمر، أو على دور مؤنس هناك وطبيعة علاقته ليس بمحيطه العربي والإسلامي فقط بل ومواقع القوى والسلطات هناك وهل فعله جاء للمصلحة فعلا أم رغبة في تحقيق مكاسب شخصية.
هنا .. فرصة لاكتشاف الذات تنتهي بهدمها؟
"أنتِ أقوى امرأة عربية قابلتها بحياتي".
هكذا قال المترجم لهنا بعد سماعه لقصتها.
إلى الحلقة الرابعة عشر تبدو هنا كامرأة تكتشف نفسها الجديدة في الغربة، مكامن قوتها، وضعفها، وحماقتها. تخطئ وتصيب بشكل متوازن، متماشي مع إيقاع الشخصية وما تلاقيه من أحداث. ثم ينقلب ذلك تماما بعد استرجاعها لإبراهيم بنسبه لمؤنس وضم حضانته له، ونراها تأخذ قرار شديد الغرابة بالموافقة على الزواج من مؤنس، منطقيا كيف لها أن توافق على الزواج منه دون حصولها على ورقة رسمية بطلاقها من حازم وهي تدرك خطورة موقفها القانوني عندما تعود لمصر بصحبته؟ وبالاستمرار في الحلقات لا نرى منها سوى قرارات حمقاء، تنسف كل الخبرات التي كونتها في السفر، ولا تُظهر أي ملمح للقوة أو للعقل، فمشاهد الجلوس بجانب حقيبتها باكية على الطريق، مسحها لرسالتها لحازم في الحلقة الثالثة ورفضها العودة رغم خطورة ومجهولية المصير، تركها لمنزل مؤنس في الحلقة الثامنة والتلميح ببياتها في الشارع، وقوفها كبائعة في سوبر ماركت تُظهر السلاح لبلطجي أو ثمل لتهديده دون النطق بكلمة واحدة، وهي تحاول إخفاء كل مشاعر الرعب على وجهها، في إشارة لتأثير السفر والوحدة، ولادتها بمفردها ومعاناة الوصول لمستشفى، مرورها باكتئاب ما بعد الولادة، محاولاتها لاسترجاع ابنها، وسرد قصتها بثبات في قاعة المحكمة، عشرات التجارب قُضي عليها تماما بقرار الزواج الثاني، فلم يقف الأمر على انسياقها لمؤنس فقط، بل نراها أيضا تصطبغ بطباع شديدة البعد عنها، تتجلى بشكل واضح في مشاهدها مع أختها.
من أبرز عيوب التلت الثاني من "لعبة نيوتن" هي مشاهد الأفان تتر، التي قُدمت ببراعة في حلقاته الأولى، بدءًا من الحلقة العاشرة، يفقد الأفان تتر دوره في التشويق والجذب للقصة والأحداث، فضلا عن تكراره في منتصف الحلقات. في حلقة من حلقات المسلسل العشر الأولى، نرى أفان تتر لظابط يشاهد فيديو لنحل يرعى على أفيون، دون أن نعرف ما دلالة ذلك إلى الآن، ونحن في التلت الأخير.
فقد المسلسل أيضا شيء من الدقة والاهتمام بتفاصيل ومنطقية المشهد، بدا ذلك واضحا في هروب منى زكي من أمام بوابة المستشفى، في غفلة من الحرس، وبشكل عجيب تمكنت من الجري رغم قيامها من عملية ولادة عسيرة أدت لانهيار عصبي، دون حتى أن يسمعوا صوت خطواتها على الأرض، فقط تفاجئوا باختفائها، في مشهد بعيد كل البعد عن ما اعتدناه من تامر محسن.
ومشهدها مع مؤنس بالمطعم بعد ضم إبراهيم لحضانته، وهو يخبرها بحبه للمرة الثانية، فترد "ربنا يخليك شكرا" بدلا من "حصل إزاي وأمتى" وكأنه مشهد صُمم خصيصا للتداول على منصات السوشيال ميديا.
رغم ذلك حافظ المسلسل على تماسك شخصية حازم، فلم يتحول بغرابة وليّ عنق كشخصية هنا. كل ما يسلكه حازم من بداية الحلقات وإلى الآن يعبر عنه، كما حافظ على التعقيد في علاقة الثنائي، وكيف أن الحب شيء لا ينقضي أمره بين يوم وليلة، رغم الغضب ومؤشرات الكره.
استمر العمل أيضا في تقديم مشاهد درامية جيدة، لا تكفي وحدها للحكم بجودة التجربة ككل، ولكنها ساعدت في استمرارية توريط المشاهدين مع الشخصيات والقصة باعتمادها على الكتابة الجيدة والإخراج المتقن،كمشهد ولادة هنا في الحلقة العاشرة، ومشهدها مع الطبيبة النفسية وتحولات مشاعرها بين الغضب للفشل في تهدئة نفسها للاستجداء، وبالتأكيد مشهدها بغرفة المحكمة مع بكاء محمد فراج. لكن أكثر مشهد استوقفني إلى الآن هو مشهد طلوعها لشقتها القديمة في الحلقة العشرين، مشهد لا نرى فيه أي استخدام للغة المنطوقة والحوار، يعتمد فقط على الصورة والموسيقى والإخراج.
نرى فيه هنا وهي تلملم ذكريات عمرها مع حازم، تضع تيشيرت له بحقيبتها، هذا ما سُمح لها، قطعة ملابس أخذتها في غفلة منه ومن زوجها الحالي. نرى التشتت وعدم قدرتها على التماهي في وضعها الجديد كغريبة على هذا المكان، فتدخل المطبخ، تمسك بقطعة قماش وتنظف، وتتأكد من سلامة الطعام قبل وضعه في الثلاجة، نرى كيف يُختزل العمر في كم قطعة جماد وصورة جمعتهم بالدموع، وفي الأخير تقف لتلقي النظرة الأخيرة، وفي الأسفل ينتظرها قدرها الجديد الذي تعجز كليا عن استيعابه.