السر في لعبة نيوتن
د، وليد سيف
لا يتصدر مسلسل لعبة نيوتن لتامر محسن قوائم الأكثر مشاهدة فى رمضان، لكنه وبكل تأكيد ورغما عما يناله من انتقادات لاذعة وكوميكس هازئة يظل من أكثر الأعمال مشاهدة، كما أنه يكاد يكون الوحيد الذى يحظى بإجماع النقاد على جودة مستواه الفنى مع ملاحظات محدودة.
وعلاوة على هذا فهو فى رأيى الشخصى من أكثر الأعمال فى تاريخ الدراما المصرية عموما إثارة للجدل وفرضا لتساءلات لا تنتهى.. فإن كنت تتفق أو تختلف مع المسلسل، تبدى إعجابك الذى يصل إلى حد الانبهار أو استخفافك إلى حد السخرية.
لكنك فى كل الأحوال لا تتوقف غالبا عن المشاهدة على الرغم من أنه من الأعمال القليلة التى لا تعتمد على أساليب الجذب المجانية، فلا توجد جرائم بشعة ولا معارك طاحنة ولا حرائق ولا مطاردات ولا مشاهد غرامية مغرقة فى العاطفية ولا مواقف كوميدية تجعلك تضحك حتى تستلقى على قفاك، ولامشاهد طلوع الروح بالتصوير البطىء.
إن ما يجذبك لهذا المسلسل بالتحديد هو البحث عن إجابة عن تساءلاتك التى يفرضها عليك العمل من قبل حتى المشاهدة ومن خلال العنوان الغريب:( لعبة نيوتن).. فهل هو عمل خفيف باعتباره لعبة، أم أنه خيال علمى يتصل باسم العالم نيوتن أو بقوانينه ونظرياته.
أم أن هذا إسم لأحد الشخصيات التى ينتظر ظهورها فى العمل، لن تجد إجابة مباشرة ترضى فضولك طوال الأحداث وعليك أن تفكر وتبحث لتصل إلى هذه العلاقة بين الموضوع والعنوان، ولن تساعدك الصور والرسوم الغريبة المصاحبة للعناوين بقدر ما تزيد الأمر صعوبة.
لكن هل يمنعك الغموض أو الإجهاد فى البحث وراء المعنى المقصود من متابعة العمل، لقد تعلقت بالفعل بالشخصيات التى تبدو مختلفة وجديدة وغريبة ومريبة.
لكنك بكل تأكيد صدقتها بفضل طزاجتها، وأيضا بفضل الأداء التمثيلى المتميز للأبطال، والذى يكشف عن أن وراءهم مخرج يضبط دفتهم ويطلعهم على الغرض المطلوب من كل مشهد ولقطة بشكل محدد.
لهذا سوف تتقبل محمد ممدوح رغم كل الانتقادات التى توجه إليه بخصوص صوته غير المسموع أو ملامحه وتكوينه الجسدى الضخم بصورة مبالغ فيها الذى يبعده تماما عن أى صورة تقليدية للبطل.
كما ستتقبل أيضا أن منى زكى على الرغم من أنها تفتقد الجمال الصارخ لفاتنات الشاشة إلا أنها قادرة على جذب الرجال لأول وهلة وأن ثمة صراعا ثلاثيا سوف يقع بينهم عليها.
من أوائل مشاهد المسلسل سوف يوحى لك أسلوب حازم وهنا بأن هناك شيئا يخفونه هل هى جريمة كبرى.. عمل إرهابى.. عملية هروب للخارج من جريمة أو حكم قضائى!؟.
ومع الأحداث سوف تعرف أن كل توقعاتك خاطئة إنها مجرد زوجة تسعى لأن تضع مولودها فى الولايات المتحدة ليحصل على الجنسية الأمريكية بكل ما تكفله له من مزايا.
مع الأحداث سوف تنشغل فى البداية هل ستنجح هنا فى مهمتها وحدها بعد أن يعجز الزوج عن السفر لها.. ثم كيف ستعود بطفلها ثم ماذا تفعل مع مؤنس الذى عبر لها عن حبه وهل ستعمل بنصيحة بيج زى الذى ساعدها كثيرا وكيف ستواجه زوجها بعد أن تزوجت من مؤنس وسجلت الطفل باسمه.
ثم هل ستعود إليه، ثم هل سيقبل هو أن يعود اليها ويترك زوجته الجديدة.. دوامة من التساءلات تفرضها الأحداث دون أن تنقلك إلى منطقة الغموض الممل أبدا، فتفاصيل الحكاية معروفة لكنك منشغل أكثر بما وراء الحكاية وما هو مغزاها.
وكيف ستكون النتائج بعد كل هذه المقدمات وهل ستسير الأحداث وفق ما تتوقعه أنت أو وفق ما اعتادته الدراما المصرية.. الإجابة لا فدائما ما تصدمك المفاجآت والسير فى دروب غير متوقعة، ربما لا تتسق مع المنطق التقليدى لكنها بالتأكيد تمتلك منطقها الخاص الذى قد يقنعك أو لا لكنك فى كل الأحوال لن تفقد شغف المتابعة.
وما كل هذه الشخصيات التى تظهر.. وخطوط العلاقات التى تمتد.. وما هو سر التماسك الدرامى وعدم التشتت بين هذه الأحداث المتلاحقة رغم التنقل بين الزمن الحاضر والماضى، والمكان بين مصر والولايات المتحدة
وراء كل هذا موهبة وجدية مخرج وجهد كبير لورشة كتابة يثبت أن عبارة ورشة السيناريو ليست بالضرورة سيئة السمعة بل أنها من الممكن أن تكون ضرورة فى نوعية من الأعمال تتطلب جهدا فى البحث وتنوعا فى الخبرات والتجارب الحياتية وتكامل فى مهارات الكتابة.
وقبل هذا قدرة لا نهائية على الالتفاف والمراوغة واللعب مع المشاهد والرجوع للدراما إلى أصلها الحقيقى باعتبارها لعبة، ربما يكون هذا هو التفسير الأقرب للنصف الأول من العنوان (لعبة)،.
وذلك بعد أن حولها كتيبة من الكتاب أو الكتبة إلى منابر للوعظ والخطب والحوارات التى لا تدع لك مجالا للتفكير، وتدفعك للاستسلام لما يمليه عليك العمل، إذا لم يصيبك الملل وتغير المحطة.
لكن ماذا عن نيوتن؟..وما علاقته بالمسلسل.. هل تعرف أن مفتاح السر قد يكون بين يديك، فالأمر لايعدو هذه القوانين الشهيرة التى درسناها فى بداية مراحلنا الدراسية.. تلك القوانين التى تتصل بالفعل ورد الفعل.. بالثبات والحركة.. والأجسام الساكنة التى تظل ساكنة ما لم تواجه قوى خارجية.
إن كل شخصيات نيوتن تواجه قوى خارجية تخرجها من شرنقتها الضيقة وتدفعها دفعا للخروج للحياة ومواجهتها واكتشاف العالم من حولها، وقبل هذا اكتشاف قدرات فى ذاتها, لم يكن لها أن تكتشفها أو تتعرف عليها لو ظلت منغلقة على تفسها..
إن الأمر يتجاوز بكثير أزمة امرأة فى محنة مواجهة أزمات كانت تعتقد بسبب قهر الزوج أنها أكبر بكثير من قدراتها.. إن المسألة تتعلق بضرورة مواجهة الحياة بشجاعة وبالتخلص من هواجس ومخاوف لن تضيف إلى الحياة إلا المزيد من الركود والجمود، بل إنها تفقد الحياة معناها ومذاقها.
هذا التفسير هو مجرد مدخل أو بوابة لتفسيرات وتأويلات عديدة للربط بين الشخصيات وطبيعة علاقاتها ببعضها بمدلولات رمزية قد نتفق أو نختلف حولها، لكن الأهم من كل هذا هو هذه الدعوة للتخلص من قيود ومخاوف وأمراض مجتمعية.
لن تنجو سفينة الوطن إلا بالتمرد على هذه المخاوف ومواجهة الواقع بشجاعة بدلا من الاستكانة والانكفاء على الذات الذى لا يجدى فى مواجهة واقع معقد وبحر متلاطم الأمواج، لا يهدأ ولا يلين، علينا أن نواجهه ونواجه أفعاله وعندئذ سوف تتولد ردود الفعل التى سوف تكون مساوية له فى المقدار ومضادة فى الاتجاه طبقا لنظرية نيوتن.
فى النهاية أرجو ألا تستسلم بشكل نهائى لهذا التفسير، فهو عمل ذكى ومراوغ وقابل لتفسيرات عديدة، ولا يمنح أسراره بسهولة بقدر ما يضعك أمام تساءلاته لتبحث وتفكر وتختار بحرية وشجاعة.
وسوف تصل حتما إلى بر الأمان بعد أن تقاوم الدوامات وتتجاوز الأخطار لأن حل الألغاز لن يخرج عن معارفك وخبراتك الإنسانية عليك فقط أن تفتش عنها بين تفاصيل السرد التى ستبدو لك لأول وهلة كأنها متاهات لكنها ليست سوى مجرد لعبة مدهشة ومثيرة للتأمل.. لعبة نيوتن.