”لعبة نيوتن”..عن ”تامر محسن” الذي لم يخذلنا
نادية جمالفي حوار سابق له، صرح المخرج "تامر محسن" عن ميله إلى مرور الحلقة الأولى من مسلسلاته دون أحداث كبرى، اعتبر إن فكرة إطلاق كل هذا الكم من الأعمال الدرامية على المشاهدين في ليلة واحدة لا تخلو من خلل ما، يضطر صانع العمل إلى وضع أكبر كم من الأحداث المشوقة في الحلقة الأولى من العمل، لجذب الجمهور لمنتجه، دون أن يدري ماذا سيفعل بكل هذه الخطوط الدرامية التي فتحها على نفسه من اليوم الأول، ويظهر الفقر الدرامي والبنائي في الحلقات التالية، إلى حد مرور عدة حلقات دون حدث واحد محوري.
يكمل تامر فكرته بالعودة لمسلسله "هذا المساء"، حيث غابت الأحداث المؤثرة تمامًا عن حلقاته الأولى، إلى حد المبالغة _ حسب وصف تامر _ فلم يلقَ المسلسل اهتمامًا كبيرًا من جانب الجمهور في بداية الموسم، مما أدى إلى تشارك المخرج وفريق العمل نوعًا من خيبة الأمل والإحباط أثناء تصويرهم للمشاهد الأخيرة، وبتتابع الحلقات ومرور الأحداث أصبح "هذا المساء" ماستربيس الموسم الرمضاني لعام 2017، بل ويضعه الكثير منّا في فئة أفضل الأعمال الدرامية التي ظهرت خلال العقد السابق على الإطلاق.
لا يسير الأمر هكذا في "لعبة نيوتن"، من أفان تتر الحلقة الأولى ودخول "منى زكي" للمطار ينذر المسلسل بجرعة من الدراما والتشويق. تسير الحلقة الأولى في اتجاهين، أحداث محورية وجذابة تتجلى منذ المشهد الأول، وأحداث معتمدة على الفلاش باك لماضي الشخصيات حيث تتكشف صفاتهم ودوافعهم للمشاهد.
"تامر محسن" بارع في تقديم شخصياته، من الحلقة الأولى فقط يستطيع المتفرج الوقوف على أهم صفات "هنا" و"حازم"، ما يميزهم وما يعيبهم، ويكتشف التركيب في شخصياتهما وفي طبيعة علاقتهما أيضًا. في البداية تظهر العلاقة جانبها الطيب بين الزوجين، وفي الخلفية "شادية" تغني "إن راح منك يا عين" في مكان يغلب عليه اللون الأصفر بدرجاته الدافئة، يتضح فيما بعد إنه منحلهما الخاص، حيث يعمل الزوجان معًا. في منتصف الحلقة تتكشف جوانب آخرى من الشخصيتين، تُظهر "هنا" ارتباكها الدائم وقلقها وخوفها المعمم، ويُظهر "حازم" تشككه في قدراتها على فعل أبسط الأشياء ومحاولته الدائمة لقولبتها في دور المحتاجة للرعاية وللتصرف دائمًا بديلًا عنها. مع نهاية الحلقة يبرز بُعد آخر من شخصية "حازم"، بعد إصرارها على البقاء في أمريكا وعدم الرجوع مع الوفد وفشله في اللحاق بها، نرى "حازم" العنيف، الذي في لحظات ما لا يمانع من سب شريكته وتهديدها والصراخ في وجهها، ربما توقف الأمر على كونه صراخًا بالوجه نظرًا لبُعد المسافة ليس أكثر. كما يظهر بُعد آخر محبب من شخصية "هنا" الخائفة دائمًا ولكنها لا تُؤثر السلامة، تقرر المكوث مجهولة المصير في بلد غريب، مرعب لنفوس المهاجرين بنفس القدر الذي يجعله مبعث على الأحلام.
ما يجعل قرار "هنا" شديد الاستثنائية، هو أنه قرار جاء من شخصية ليست شجاعة بالأساس، إنسانة ترتعب من أبسط الأشياء، في مشهد فلاش باك لها بالحلقة الأولى تظهر فيه دقة "تامر محسن" في رسم جوانب شخصياته، تجلس هنا على رصيف أمام بيتها بجانبها كهربائي يحاول إصلاح العطل، فيما تنتظر هي عودة "حازم" لخوفها من الجلوس بمفردها أثناء انقطاع الكهرباء، تفتح هنا "Google Translation" وتترجم جملة "ٱنا هنا لحضور مؤتمر خاص بالبحوث الزراعية" بالانجليزية وتستمع إلى نطقها السليم، تردد وراء الموقع وتخطئ وتعيد، يتضح فيما بعد أن "هنا" مهندسة زراعية، حاصلة على الماجستير، مما يعني استحالة عدم قدرتها على ترجمة هذه الجملة من تلقاء نفسها وإلقائها على موظف المطار، ولكن ولإنها شديدة الارتباك، تعطي مساحات كبيرة من وقتها في التمهيد لأبسط الأشياء. وبالعودةلبداية الحلقة نراها وهي عاجزة عن نطق كلمة "Agricultural" بفعل التشوش.
اكتشاف الذات
تتعقد الأمور بين "هنا" و"حازم"، يهددها الأخير بالطلاق في حال إصرارها على البقاء بأمريكا، في الحلقة الثالثة تبدأ "هنا" في الالتفات لذاتها، وما تريده هي، وليس ما تريد أن تثبته لزوجها. ترسل له رسالة تخبره باشتياقها له وبإن الوقت ولقائهما مرة آخرى قادر على إذابة ما حدث، وتشرح له جرحها بتهديده بالطلاق، ثم تمسح رسالتها سريعًا قبل أن يراها، تمسح دموعها وترسل لأختها لتكون هي المرسال بينها وبين أمها و"حازم". من هنا تتحرر "هنا" شيء فشيء من سطوة "حازم" على روحها. هي في وجه الخطر، مغتربة ووحيدة، بناءًا على رغبتها الخاصة.
تبدل الأحوال
تبدأ أحوال "منى زكي" في الاستقرار بعد ظهور "زي" ومساعدته لها، فيما تبدأ أحوال "تايسون" في الانهيار بعد ظهور شخصيتي "الحاج بدر" و"شاهين" والتلويح بإجباره على ترك المنحل. يبدأ الغموض منذ اللحظة الأولى لظهور شخصية "سيد رجب" في مشهد أفان تتر وهو يقوم بدفن جثة ليلًا بمساعدة "شاهين". في الحلقة السادسة يقدم ''رجب" أدائًا رائعًا، يعيد إلى الأذهان تقمصه لشخصية "حمادة غزلان" في مسلسل "موجة حارة" 2013، فتأتي تصرفاته الودودة مع "حازم" بعد علمه بقتله لشاهين بقرص النحل مرعبة ومثيرة للقلق بشأن مصير "حازم" وما سيلقاه على يد "بدر". ينتهج "بدر" أسلوب التعذيب البطيء مع "حازم"، يتجلى ذلك في مشهد العزاء ولعب الشطرنج ومطالبته بالمبيت معه ومشهد السيارة على أنغام "أسمهان"، يجعله يتمنى انطلاق رصاصة الرحمة خير من رعب انتظارها.
بالتوازي تظهر شخصية "مؤنس" المحامي في حياة "هنا" لتعيد لها التوتر، توتر ندركه نحن وتدرك عكسه هي. وكعادة ثنائية "محمد فراج" و"تامر محسن" التي وصلت ذروتها في شخصية "سوني" من مسلسل "هذا المساء" نجد أداءً رائعًا من "فراج" في أولى مشاهده بالمسلسل، يجعلنا نجلس على أطراف مقاعدنا منتظرين ما سيُنزل بـ"هنا" جراء تلك المقابلة.
ما يميز الحلقة السادسة بعد طابع الغموض في أداء "فراج" والسيريالية في أداء "سيد رجب'' هو وقوفها على التراكبية في علاقة "هنا" و"حازم"، تلك العلاقة التي لا تتمناها ولا تنفر منها في نفس الوقت، تقدر دفئها والحب في قلوب طرفيها مع وضع مساوئهما وما أوصلهما إلى ذلك في نفس الصورة، دون أن يتعاظم شعور على آخر.
بعد الرعب الذي بثه "بدر" في نفس "حازم" وشبه احتجازه في المنزل، لم يجد الأخير سبيلًا سوى الاتصال ب"هنا"، الاطمئنان عليها وسماع صوتها، يخبرها بمدى حبه وانتظاره ويجد مساحة للبكاء معها دون أن يصرح لها بشيء، وفي مشهد شديد الدفء والحميمية يتصالح الزوجان، تخبره "هنا" بجنس المولود وتعده بالمجيء سريعًا بعد حصولها على مرتب الشهر الأول من عملها مع "مؤنس".
ما يميز المشهد ويضفي عليه هالة من الحزن بجانب الدفء، هو ما يحدق بالطرفين من خطر، تعرف عليه "حازم" ويعيشه، فيما ما زالت "هنا'' تبتسم ويخيل إليها أن حياتها بالغربة قد استقرت نسبيًا.
بشكل عام، "لعبة نيوتن" عمل متقن، لمخرج ومؤلف اعتاد على أن لا يخذلنا. يوعد المسلسل بالمزيد في القادم مع جرعات من الدراما المتقنة والإثارة والتشويق. في انتظاره ليصبح "ماستربيس" 2021.