ما وراء الطبيعة.. بداية مبشرة للواقعية السحرية في الدراما المصرية
بقلم / أ.د/ جودة مبروك محمد
الواقعية السحرية أو العجائبية مشهورة في نوع خاصٍّ من الروايات التي تحمل فكرة لا منطقية من حيث التصور البشري، وهي محاولة لإيجاد حلول للغيبيات أو تفسير لبعض الأشياء وراء المشاهدة والحسّ أو العالم الميتافيزيقي والأسطوري.
ولقد عَرَفَتِ الواقعية السحرية مسارَها الفنيَّ منذ القِدَمِ، قرأناها في الآداب العربية في: ألف ليلة وليلة وكتاب كليلة ودمنة، ولا زالت جنسًا أدبيًّا له جمهوره العصر الحديث، وإن اتخذت أساليب مختلفة في الكتابة، ربما تظهر في صورٍ بسيطة في حكايات الأطفال مثل ((توم وجيري))، في تحول الحيوان إلى عقلاني مفكر، فنلاحظ موت أحدهما مرات عديدة ولكن لا تلبث أن تراه مرةً أخرى، على خلاف المنطق المعهود لفكرة الموت وحقيقته التي يلم بها الإنسان.
ويجد هذا الجنس الأدبي في انتقاله إلى عالم الدراما والتمثيل صعوبة في الإخراج وتقنيات الديكور؛ لذا ظهر في السينما الغربية أولاً، لتوافر أداوته من الخدع البصرية والإمكانات المادية، وإن ظهرت بعض ملامحه في بعض الأفلام العربية مثل: في الفانوس السحري، لكنه بشكل مبسط، في احتفاظ السيناريو ورؤية الإخراج بمنطق البشر، وظهر أيضًا في فيلم ((عفريتة هانم))، وإن حمل رؤية كوميدية، وفي فيلم ((طاقية الإخفاء))، وفي فيلم ((الإنس والجن)).
لكن تظل الواقعية السحرية فكرة مبسطة في كل الأعمال السابقة، حيث ترتبط بفكرة واحدة، وتحافظ على المسافات بين الواقع والخيال والحضور والغيبي، بخلاف بعض الأعمال التي تعكس التداخل بين الوعي واللاوعي.
لقد ظهرت الواقعية السحرية أو العجائبية بتمامها في الدراما العربية في العمل الدرامي ((ما وراء الطبيعة)) المأخوذ عن سلسلة أحمد خالد توفيق التي وصلت أعدادها أكثر من ثمانين عددًا، وما تميَّزتْ به عن الأعمال السابقة التلاصق بين المنطق واللامنطق، والوعي واللاوعي، وحالة الاختلاط بين الحقيقة والخيال في كل أجزاء العمل، حيث تتضح القيمة الفنية في اكتمال أركان الإبداع في كل تفاصيل الحلقات الست التي أُذيعت، فلم يعد المشاهد في اعتقاده الموجودات فقط.
تشكل رؤية المخرج في: ما وراء الطبيعة تحديًّا كبيرًا في نقل الأحداث إلى العالم الآخر غير المرئي أو غير المجرَّب للمشاهد، ولم يقصد بها الكوميديا أو السخرية ، فمثلت الأحداث والمناظر حالة فلسفية وأسطورية خاصة، في فضاء الصورة؛ تمثلت في القصر القديم ونظامه المعماري وقدمه الزمني، والصحراء بعالمها المجهول، وكأنها تحمل بعدًا آخر لما وراء الطبيعة، والملابس المترجمة والمعبرة عن عنصر الزمن وتاريخية الأحداث، أضف إلى ذلك توظيف الموسيقيا التصويرية والإضاءة في استنطاق رؤية المخرج وتوظيفها في المنولوج الداخلي للشخصيات وتجسيد الأحداث الخارقة.
لكن أداء الفنان أحمد أمين فاق كل التوقعات، في قدرته على تجسيد الاضطراب والقلق ليبدو الشخصية الصانعة للأحداث، وظهر أداؤه الجسدي عاكسًا حالة الرعب والانكسار ومحاولته الطامحة في الأحداث في البحث عن الحقيقة والخلاص، أما الأداء اللغوي فنتفق أنه قلب موازين النجومية بقدرته على تلوين الصوت وانغماسه في دوامة العجائبية، سانده في ذلك كاتب الحوار العبقري في استخدامه ألفاظًا لم تكن قريبة من فكر الدراما المصرية، والجديد أن كاتب السيناريو اختلف من حلقة لأخرى، وكذلك الإخراج.
تلك بداية لدراما نظيفة تصعد بالمشاهد إلى حالة ثقافية جادة، بعيدًا عن الإسفاف وتقديم التنازلات والإيحاءات التي تهدم قيم المجتمع وتعبر عن سلبياته، ما يؤكد لنا أن الواقع الفني ما زالت لديه القدرة على طرح القضايا التي لها اهتمام للشباب، مما يحمِّل إدارة الثقافة في مصر مسؤولية الترويج لهذا النوع من الفنِّ.