فكرة إنشاء مصنع ”نستله” قبل 150 عامًا من صرخات الأطفال

في واحدة من ليالي الشتاء قارصة البرودة، وبينما كان الصمت يعم أرجاء أحد أحياء مدينة فيفي السويسرية الهادئة، كسرت صرخات مولود صغير حاجز الصمت، وجذبت انتباه سكان الحي، ومن بينهم "هنري نستله" الذي هم مسرعًا لتتبع صوت الطفل الذي لم تنقطع صرخاته لساعات، ليطرق أبواب بيته، ويجده قد شارف على الموت بعد أن باءت بالفشل كل محاولات إرضاعه من ثدي أمه.

في هذه الأثناء كان شائعًا وقوع حالات وفيات مماثلة بين الأطفال الرضع الذين يرفضون تناول الحليب من أثداء أمهاتهم، ولم يكن هناك أي بديل يمكن تقديمه لهؤلاء الأطفال سوى حليب الأم، وهو الأمر الذي استرعى انتباه "هنري نستله" ودفعه للبحث عن بدائل يسد بها جوع هؤلاء الأطفال، وينقذ أرواحهم من الفناء.

سارع هنري نستله بالعودة لمنزله، وحضر وجبة من مكونة من حليب الأبقار الممزوج بالدقيق والسكر، وعاد بها مهرولاً حيث الطفل الرضيع مسجي بين يدي أمه في انتظار نفس المصير الذي لحق بكل من سبقوه، لكن رويدًا رويدًا حاول نستله بمساعدة الوالدين إطعام الطفل بتلك الوجبة المبتكرة، إلى أن بدأ الرضيع في تقبل الأمر لتتوارى صرخاته، بينما ذاع صيت "هنري نستله" في المدينة بوصفه "منقذًا للأرواح"، لتنطلق بعد ذلك رحلته مع بناء أول مصنع لانتاج الألبان المصنعة قبل 150 عامًا، ليصبح الأكبر على مستوى العالم.

رحلة هنري نستله

بدأت شركة نستله في سويسرا في منتصف ستينيات القرن الـ19 عندما ابتكر مؤسسها هنري نستله واحدة من أولى تركيبات حليب الأطفال، بعد أن أدرك الحاجة إلى منتج صحي واقتصادي ليكون بمثابة بديل للأمهات اللاتي لا يستطعن ​​إرضاع أطفالهن، وكثيرًا ما فقدت الأمهات غير القادرات على الرضاعة أطفالهن، بسبب سوء التغذية.

كان منتج هنري نستله عبارة عن خليط معد بعناية من حليب البقر ودقيق القمح والسكر، وأطلق عليه مسمى لاكتوز فارينا، وهو نفس المنتج الذي استخدمه في إنقاذ حياة الطفل الرضيع بعد أن تخلى عنه الأطباء بسبب رفضه تناول الحليب من ثدي أمه، وأسس هنري مصنعه الصغير، قبل أن ينجح في تطويره وغزو الأسواق الأوروبية بمنتجه الجديد، ليؤسس علامته التجارية "نستله" بشعارها المألوف.

نجح هنري نستله -الذي تخصص في مجال الصيدلة وتركيب الدواء في بداية حياته- في تحقيق أرباحًا كبيرة وتوسع في عمليات الإنتاج، وفتح أسواق جديدة بعد أن تنويع منتجاته واستخدم الشوكولاته في صناعة مزيجًا جديدًا لقي استحسانًا كبيرًا.

في هذه الأثناء كانت قد ظهرت على الساحة شركة منافسة تحت اسم "إنجلو سويس للحليب" استخدمت مكونات مقاربة لما هو مستخدم في حليب نستله، ليبدأ فصلاً طويلاً من المنافسة الشرسة بين الشركتين، إلى أن جاء العام 1874 حينما قرر هنري نستله - الذي ولد في فرانكفورت الألمانية أغسطس 1814 - الاستسلام بعد أن وصل إلى سنه الـ60 وفضل التقاعد لينتقل مع عائلته للعيش في منطقة جليون في ألمانيا إلى أن توفي في 7 يوليو 1890، إثر نوبة قلبية.

قبيل تقاعده، قرر هنري نستله ببيع شركته إلى شخص يُدعى جولز مونيرات مقابل مليون فرنك سويسري، وتستأنف الشركة المنافسة الشرسة مع شركة إنجلو- سويس للحليب، حتى عام 1905 حينما قررت الشركتين الاندماج تحت اسم "نستله الأنجلو سويسرية للحليب المكثف".

نستله تواجه أول المطبات

جعلت بداية الحرب العالمية الأولى من الصعب على شركة نستله شراء المكونات الخام وتوزيع المنتجات، حيث كان الحليب الطازج شحيحًا في أوروبا، وكان على المصانع بيع الحليب للاحتياجات العامة بدلاً من استخدامه كمكون في الأطعمة، فاشترت نستله مصانع عدة في الولايات المتحدة لمواكبة الطلب المتزايد على الحليب المكثف ومنتجات الألبان عبر العقود الحكومية، وتضاعف إنتاج الشركة وأرباحها، وحينما وضعت الحرب أوزارها في عام 1914 انخفض الطلب على الحليب الصناعي وارتفع الطلب مجددًا على الحليب الطازج الذي بات متاحًا مرة أخرى لتواجه الشركة واحدة من أهم التحديات عبر تاريخها، بعد أن انزلقت إلى الديون.

ومع حلول عشرينات القرن الماضي، كانت الشركة نجحت في خفض ديونها وابتكرت المزيد من المنتجات التي تعتمد على الشوكولاته، ثم ابتكرت مشروب "النسكافية" في ثلاثينيات القرن الماضي، لتحدث ثورة في شرب القهوة على مستوى العالم.

لكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، تراجعت أرباح الشركة مجددًا، بعد أن انحازت سويسرا لمبدأ الحياد بين طرفي النزاع، ما تسبب في انعزالها تمامًا عن القارة الأوروبية، وأجبرت الشركة على نقل العديد من المسؤولين التنفيذيين في نستله إلى مكاتب في الولايات المتحدة، بسبب مشاكل التوزيع في أوروبا وآسيا.

وشيدت الشركة مصانع جديدة في البلدان النامية في أمريكا اللاتينية، وزاد الإنتاج بشكلٍ كبير مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب، وأصبح "نسكافيه" المشروب الرئيسي للجنود الأمريكيين في أوروبا وآسيا، وزاد إجمالي المبيعات بمقدار 125 مليون دولار من عام 1938 الى عام 1945.

سنوات الاستحواذات وأزمة المقاطعة

استمرت الشركة في النمو والازدهار، بعد أن استحوذت عام 1947 على شركة "المينتا" المتخصصة في تصنيع التوابل، ثم استحوذت على شركات أخرى تعمل في مجال الأطعمة المجمدة وعصائر الفاكهة ومستحضرات التجميل، فيما تضاعفت مبيعات نسكافيه سريع التحضير 4 مرات خلال الفترة من عام 1960 وحتى عام 1974 الذي انتكست فيه الشركة مجددًا، نتيجة لارتفاع أسعار النفط متأثرًا بالصراع العسكري في الشرق الأوسط، لتقرر الشركة اقتحام مجال صناعة الأدوية بعد استحواذها على شركة "الكون لابورتاريز".

في تلك الأثناء وخلال عام 1977 واجهت الشركة عاصفة من الانتقادات بسبب توسعها في الدعاية للألبان المصنعة باعتبارها تعوض الالبان الطبيعية، ودعا المستهلكين إلى مقاطعة شركة نستله ردا على ما اعتبروه تسويقًا عدوانيًا لبدائل لبن الأم، وتدخلت منظمة الصحة العالمية باعتماد المدونة الدولية لتسويق بدائل لبن الأم، والتي وقعت عليها شركة نستله في عام 1984، مما أدى إلى إنهاء المقاطعة.

بعد عام من انتهاء المقاطعة، اشترت نستله شركة كارنيشن مقابل 3 مليارات دولار، في واحدة من أكبر عمليات الاستحواذ في ذلك الوقت، وبعد عام واحد، ظهرت كبسولات نسبريسو على الرفوف لأول مرة.

نستله تغزو العالم

خلال فترة الثمانينات كان لشركة نستله رئيس تنفيذي جديد، وبحلول التسعينات كانت قد تقلصت حواجز التجارة الدولية، مما أدى إلى فتح التجارة مع أجزاء من أوروبا والصين وباتت نستله الشركة الرائدة في صناعة المواد الغذائية في العالم، وتحقق نحو 81 مليار دولار من إجمالي المبيعات وتبني أكثر من 470 مصنعًا حول العالم.

في القرن الـ21، واصلت نستله نموها، وقد استندت في ذلك على إنتاج المياه المعدنية من خلال اقتناص الشركات الفرنسية والإيطالية، ثم أطلقت شركة Nestlé Purina Petcare في عام 2002، لتصبح قوة لا يستهان بها في قطاع إنتاج أغذية الحيوانات الأليفة.

وفي عام 2010، أصبحت البيتزا المجمدة من Kraft Foods تحت مظلة الشركة، وأطلقت لعديد من الشركات الأخرى من قبل الشركة لتغزو نستله أسواق العالم بأكثر من 8 آلاف منتج متنوع، مدعومة بسلسلة طويلة من الاستحواذات التي شملت أكبر العلامات التجارية حول العالم.

عمليات نستله في مصر

تعد "نستله مصر" شركة مملوكة بالكامل لشركة "نستله إس إيه" التي يقع مقرها في سويسرا، وتتواجد أيضًا فى العالم العربى، وتحديدًا فى شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث  تشغل 20 مصنعًا وتوفر فرص عمل مباشرة لما يقرب من 22 ألف شخص. 

تواجدت منتجات شركة نستله في مصر منذ 1870 عن طريق المستوردين، وبدأت الشركة عملياتها فى مصر عام 1988، ويقع مقرها الرئيسى فى القاهرة، وتعد شركة نستله مصر مركزًا محوريًا لمنطقة شمال شرق إفريقيا، والتى تضم 3 دول: مصر، وليبيا، والسودان، وتوفر فرص عمل مباشرة لما يقرب من 3500 موظفًا، كما تساهم الشركة بمنح فرص عمل غير مباشرة لأكثر من 1500 آخرين، وتستثمر أكثر من 3.5 مليار جنيه في مصر

تمتلك نستله 3 مصانع فى مصر، اثنين منهم في مدينة 6 أكتوبر لإنتاج مرقة ماجي، وسيريلاك، ونسكويك، ويعيد تعبئة نيدو ونسكافيه وبنجورنو، والمصنع الثالث متخصص في إنتاج المياه المعدنية وينتج "نستله بيور لايف" ومياه بركة المعبأة.

ووفقًا لمعتز الحوت، الرئيس التنفيذى لشركة "نستله مصر"، فإن الشركة لديها خطة لإنشاء خطوط إنتاج جديدة باستثمارات تقدر بنحو 30 مليون فرنك سويسري،حتى 2022.

في عام 2016 ، احتفلت شركة نستله، بالذكرى السنوية الـ 150 لتأسيسها، ولم يجل في خاطر هنري نستله أن مساعيه لتوفير خيار صحي للأمهات غير القادرات على الرضاعة الطبيعية سينجم عنه -بعد قرن ونصف القرن- تأسيس أكبر شركة متعددة الأنشطة في العالم، تعمل الآن في 194 دولة وتمتلك قائمة تضم أكثر من ٨٥٠٠ منتج، مثل: نسكافيه، وريكوري، وكوفي، ومياه بيريه Perrier، وسانتا ماريا، ونيسكويك، ميلو، وكارنيشين، كارو، وسيريلاك، ونيدو، ونيسبراي، وكوفي ميت، نان، ولاكتوجين، وماجي، وعصير ليبيز، ومكرونة بيتوني، وفريسكو، وكرانش، وكيت كات، وبولو، ولوريال للماكياج.