هبّة المصريين لمنع مسلسل أحمس تكشف الجين الفرعوني الأصيل
بهجت العبيدي محطة مصرفي أوائل العقد التسعيني من القرن الماضي قررت وزارة التربية والتعليم قصة "كفاح طيبة" للأديب العالمي نجيب محفوظ على تلاميذ الصف الثالث الإعدادي، هذه القصة التي لم يستمر تدريسها كثيرا، حيث قيل بعد أن استبدلت بقصة أخرى أنه كان هناك مطالبات مالية إضافية من الناشر، هذا الذي لا أعلم دقته على وجه اليقين.
في هذه الأيام كنت أعمل مدرسا للغة العربية بمدرسة عمر بن الخطاب الإعدادية الجديدة بعزبة "الإتل" بلسا الجمالية بمحافظة الدقهلية، وكنت أستمتع، وأنا المفتون بنجيب محفوظ، أيما متعة وأنا أقوم بشرح هذه القصة التي هي من أوائل أعمال نجيب محفوظ التي استلهم فيها التاريخ المصري القديم هي ورادوبيس وعبث الأقدار، هذه الروايات الثلاثة استلهم فيها أديبنا العالمي تاريخنا الفرعوني؛ وتدور أحدث تلك الروايات في مصر القديمة، واستلهمت التراث الفرعوني في نوع من الاسقاط التاريخي على المرحلة السياسية التي سادت مصر في تلك الفترة.
وقد بدأ اهتمام نجيب محفوظ بالتراث الفرعوني في مرحلة دراسته الجامعية حين ترجم كتاب "مصر القديمة" للمؤلف جيمس بيكي.
اقرأ أيضاً
لم يعد محفوظ بعد هذه الثلاثية للكتابة عن مصر الفرعونية إلا مرة واحدة في رواية "العائش في الحقيقة" (1985) التي تحدثت عن أخناتون. وقد تأثر محفوظ بالروائي الإسكتلندي والتر سكوت (صاحب رواية ايفانهو) الذي تناول التاريخ الإنجليزي في رواياته.
وكما هو معروف فإن الأديب، أي أديب، لا يكتب تاريخا، ولكنه يستخدم التاريخ، لإيصال فكرة معينة، أو للهروب من مقصلة الرقيب، أو لمراوغة السلطة الحاكمة وذلك بإسقاط الواقع المعاصر على مرحلة تاريخية يتم اختيارها بعناية، ويقوم الأديب بدراستها دراسة دقيقة، لكي يتمكن من استخدام أحداثها للتعبير عن واقع معاصر يُضمّنه هذا العمل متنكرا في زي تاريخي لمرحلة زمنية ما.
يمكن للأديب إضافة شخصيات لم تكن في هذه الفترة التاريخية التي يتم اختيارها، على ألا تكون هذه الشخصيات شخصيات تاريخية معروفة: من قادة أو حكام، بل تلك الشخصيات الحياتية التي لا يخلو منها أي عصر، كما يمكن أن يرمز إلى شخصيات معاصرة من خلال رسمه لشخصية متخيلة في هذا الزمن التاريخي أو ذاك.
إذاً هناك مساحة واسعة للمراوغة يمكن أن يبدع فيها الأديب شخصيات التاريخية التي هي في الحقيقة شخصيات معاصرة، هذا الذي لا ينكره عليه ناقد ولا متخصص في الأدب.
نعود إلى مسلسل "أحمس" الذي قيل أنه مأخوذ عن قصة كفاح طيبة لأديبنا العالمي نجيب محفوظ، تلك الرواية التي ذكرت لحضراتكم كم هي رائعة وصفا ولغة وتشويقا، فما أن تم تسريب بعض اللقطات من هذا المسلسل، فإذا الدنيا تقوم ولا تقعد، وإذا بالشارع المصري بكل فئاته ابتداء من المتخصصين والمثقفين والمتعلمين وحتى غير المتعلمين يقفون موقفا واحدا متشددا مطالبين بمنع هذا المسلسل، لأنه، كما أظهرت بعض اللقطات، لا يقدم تلك الفترة التاريخية كما هي، بل يقدم شكلا ومضمونا مخالف للتاريخ المصري القديم، قامت الدنيا ولم تقعد لأن البطل في المسلسل بلحية، وأن أجدادنا وملوكنا العظام لم يكونوا ممن يطلقون لحاهم، قامت الدنيا ولم تقعد لأن المرأة المصرية لم تكن تضع "شالا" على شعرها، بل كان شعرها منطلقا لا يحجزه حاجز ولا يحجبه عن الهواء غطاء، قامت الدنيا ولم تقعد، لأن ملكنا المصري القديم كان حليق الذقن والرأس، هذا الذي علمنا أنه كان يعتبر الشعر في الوجه والرأس نجاسة لا تليق بملك هو صورة الإله في الأرض.
فكما يقول الدكتور أحمد بدران، أستاذ الآثار والحضارة القديمة: إن المصادر المصرية القديمة جميعها تجسد المصريين القدماء حليقي شعر اللحى والرأس، بسبب طقوسهم الخاصة بالطهارة والعبادات وغيرها.
إن المدقق في هذه الهبّة التي هبها الشعب المصري جميعه ليوقف ويمنع هذا المسلسل من العرض يدرك إدراكا لا لبس فيه ولا شبهة أن هذا التاريخ الفرعوني يتملّك جينات الشخصية المصرية التي مهما مر عليها من حكام محتلين ومهما جار عليها من أقوام فإنها تظل تحتفظ لهذه الحضارة العظيمة بالنصيب الأوفر من الحب والعشق والانتماء، هذا الذي يمكن أن نلحظه في تعليق مصري لم يحظ بأي قدر من التعليم، ولا يعلم عن الفراعنة سوى الصورة السلبية من القرآن الكريم الذي توقف عند فرعون موسى وقفة طويلة، تجد الحب والعشق والانتماء لهذه الحضارة في تعقيب مصري لا يعرف أحمس ولم يعلم عن الهكسوس شيئا، ولكنه يطالب بكل قوة بوقف هذا المسلسل لأنه يسيء لأجدادنا العظام أصحاب أعظم حضارة وأطولها في تاريخ البشرية الحضارة الفرعونية العظيمة.
إن موقف الشعب المصري من مسلسل أحمس يبعث فينا كل الفخر، كما يبعث فينا كل الاعتزاز، كما يؤكد لنا أن هذا الشعب ملتصق بتاريخه التصاقا ولا سبيل لانفكاكه عنه، وأن هذا الشعب الذي وقف إجلالا وتبجيلا واحتراما لمومياوات ملوكه في موكبهم المهيب الذي انتقلوا فيه من التحرير إلى الفسطاط سيستمر محافظا على هذا الإرث الخالد، مستلهما هذا المجد التليد في بناء حضارة جديدة تليق بخلف لأعظم سلف.
طبعا لن نلتفت لهؤلاء الذين يخلطون الأمور، والذين يقيسون كل شيء على فهم ضيق، فيتحدثون عن الوثنية والتوحيد، ويحاولون سلب حضارتنا كل ما هو رائع، من خلال وصفهم، وهو وصف لم يكن بعيب في زمانهم، بالوثنيين، ففي ذلك الوقت كان العالم جميعه لم يتعرف على فكرة تفريد الإله بعد، تلك التي لم تبدأ إلا شيئا فشيئا في اليهودية، حسب علماء تاريخ الأديان، وكان من ينادي بها في العصور القديمة، كمن ينادي بالوثنية اليوم.
ومع ذلك فإننا نجد من يذهب أن أعظم العقول البشرية "سقراط" الذي تم إعدامه كان قد نادى بالوحدانية، وقيل أن مقتل الملك "إخناتون" كان سبب دعوته للتوحيد، بل ذهب بعضهم إن الكهان كانوا يؤمنون بالتوحيد.
هذا الذي يفسر قول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الرائعة "ولد الهدى":
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة /// بالحق من ملل الهدى غراء
بُنيت على التوحيد وهى حقيقة /// نادى بها سقراط والقدماء
ومشى على وجه الزمان بنورها /// كهان وادى النيل والعرفاء
إيزيس ذات الملك حين توحدت /// أخذت قوام امورها الاشياء
إن إسقاط فهم وعقيدة مرحلة زمنية على مرحلة أخرى هو العبث بعينه. هذا العبث الذي لا يخلو زمن ممن يسعون له ويعيشون عليه.