فنان الواحات البحرية ”محمود عيد” في حكاوى الخطاوى
ماريز نادي محطة مصرقال الدكتور محمد أمين عبد الصمد، الباحث في الإنثروبولوجيا الثقافية، إن الراحل محمود عيد خلقه الله فنانًا، ولا نستطيع عند دراسة أي فنان أن نعزله عن بيئته ولاعن مجتمعه، وفي الآن ذاته لا يستطيع أي شخص حتى ولو كان متخصصًا في تنظيرات الفنون أو علم نفس الإبداع أن يصنع فنانًا أو يخلق موهبة، فالموهبة هذا السر الإلهي الذي يمنحه الله لمن يشاء من خلقه دون أسباب ندعي معرفتها أو سبر أغوارها خارج نطاق المفهوم والمقنن، فهي سر بحق لا نستطيع الامساك إلا بتجلياته، ولا نستطيع إلا دراسة مراحل إنتاج العمل الفني، مرجحين تأثيرات معينة أو أفكار معينة دون حسم من أين يأتي الإبداع؟
جاء ذلك خلال الحلقة الثانية عشر، من سلسلة حلقات برنامج "حكاوى الخطاوى"، التي أطلقها الدكتور محمد أمين عبد الصمد "أون لاين" عبر موقع اليوتيوب، بعنوان "محمود عيد - فنان الواحات البحرية"، للمساهمة فى تنمية ورفع الوعي الثقافي لدى أفراد المجتمع بالموروث الشعبي في مختلف المجالات.
وأضاف عبد الصمد: لا يستطيع الباحثون اكتشاف الهوية الوطنية، من خلال استقراء الفنون الشعبية والإبداعات التشكيلية البعيدة عن التنظير والتقنين المدرسي، فنون تأصلت عبر مراحل تاريخية متتالية مستلهمة إبداعاتها وأساليبها الفنية من واقعها المعيش ومن تراكم التقاليد الفنية جيل بعد جيل، ونجد في الفنون التشكيلية الشعبية المصرية أعمال تعبر عن الروح المصرية الصميمة بقيمها الجمالية وأبعادها الفلسفية التي يفهمها الجميع ويتذوقها الجميع، فالرسوم الشعبية بخطوطها الطفولية المنطلقة مع بعض المبالغة تشكل تذوق فني ورؤية خاصة للجماليات.
وأوضح باحث الإنثروبولوجيا الثقافية، أن أعمال الفنان الراحل محمود عيد، فنان الواحات البحرية، بالخطوط القوية في لوحاته واستخدام ألوانه بشكل حر مستفيدًا من مخزونه الثقافي التقليدي، وهو فنان عَلَمَ نفسَه بنفسِه، لم يلتحق بأكاديمية فنية أو كلية أو معهد متخصص في دراسة الفنون، بل صنع مدرسته وكُليتَه بنفسه وتعلم عن طريق المحاولة والتجربة وإعادة إنتاج العمل الفني وتعديله، ولم يكتف هذا الفنان بشكل فني واحد، بل تشعبت تجليات موهبته، فمارس فن التصوير والرسم، ومارس النحت الغائر والبارز، ومارس العمارة التقليدية، وصنع بنفسه أكاسيد ألوانه من الطبيعة المحيطة به، فصادق الصخور، وصاحب الأحجار، وجالس التراب الواحاتي، فصنع منه ألواناً لها روح ورائحة، إنه فنان حمل بوعيه الأصيل أمانة التعبير عن ثقافته، بالشكل الفني الذي يتقنه، متحملاً مخاطر عدم التحقق وتعجب مجتمعه منه ومن أنشطته وإنتاجه الفني، بل أحياناً سخريته، ومتحملاً أيضاً تكلفة مادية يرى الكثيرون أنها وُجِّهت هباء .
وأكد الدكتور محمد أمين عبد الصمد، أن الفنان محمود عيد آمن بنفسه وبموهبته، ودارت عيناه البرَّاقة مُسجلة باندهاش وتركيز كل ملامح ثقافة مجتمعه، مختزناً أشكال احتفالاتهم وتجمعات عملهم وسمرهم، لم تغب ملامح أهل الواحة عنه، صَوَّرها ونحتها، لم ينظر واحاتي من أهله إلى تمثال صنعه أو لوحة رسمها إلا ورجح أن هذا تمثال عم فلان، وأن هذه صورة الخالة فلانة.
وتابع: استطاع الفنان محمود عيد إنشاء متحفاً للحياة الشعبية الواحاتية، ووضع فيه حصيلة عمره من تماثيل ولوحات وجداريات ولم يبخل على هذا المشروع الحلم بجهد أو مال، سنوات قضاها في عمل جاد واضعاً هذا الحلم في الدرجة الأولى من قائمة اهتماماته، واكتمل الحلم واقعاً رويداً رويداً أمام الناظرين، كما أراده محمود تماماً وبدأ يتوافد على المتحف المتميز الزائرون من مختلف الجنسيات، فمن زار الواحات البحرية ولم يزر متحف محمود عيد فقد فاته الكثير و الكثير جداً.
ويستكمل الدكتور محمد أمين حديثه عن كفاح ومثابرة الفنان محمود عيد، ويقول : لأسباب لا داعي لذكرها هنا، فقد محمود عيد متحفه الأول الرائع، فقده تماماً، ولم يضع يديه على خده ويكتفي بالبكاء على الأطلال وتذكر ما كان، ولكنه بعزيمة فنان حقيقي وبصدق في النوايا والهدف، بدأ رحلة بناء متحف جديد من الصفر بل نستطيع القول من تحت الصفر، فعليه أن يسدد بعض الالتزامات أولاً قبل البداية الثانية، ورأى الكثيرون أن الحلم هذه المرة صعب جداً، وأن محمود عيد سيرهن ما تبقى من عمره لإعادة بناء حلمه، ولكن محمود عيد لا يحمل داخله إلا ثلاثة عناصر عقل طامح وإرادة فولاذية وموهبة حقيقية وقد كان، وحرص في متحفه الجديد على أن يجعل الزائر يرى الواحات البحرية في مائة عام، وكلما تجول الزائر في المتحف يعود في الزمان ويغوص في أسرار المكان وسط تكوينات رائعة، وشكل عرض متميز، رغم بساطته لا يخلو من ذكاء وحرفية، ولم يتوقف الفنان الراحل محمود عيد عن الإضافة لمتحفه كل إشراقة شمس بلا أدنى مبالغة، ولكن في نفس الوقت كان يضطر إلى بيع الكثير من إبداعاته الفنية للسائحين والزائرين حتى يستطيع الاستمرار بفنه ويستمر متحفه، ولم يرحل عام 2015 إلا بعد رحيل محمود عيد عن دنيانا، عن عمر لم يتجاوز الخامسة والأربعين، تاركاً تراثاً فنياً يتحدى النسيان، وتجليات موهبة قل أن تتكرر.