الأمير عبد الكريم الخطابي.. أسد الريف وملهم چيڤارا
حنين ناجي محطة مصرقاد ثورة الريف المغربي وهزم الاحتلال الإسباني.. والقاهرة كانت ملاذه الأخير
خلال سيرك في منطقة صحراء المماليك ربما تصادف مقابر شهداء القوات المسلحة حيث يرقد أول رئيس جمهورية لمصر، الراحل محمد نجيب وغيره من شهداء القوات المسلحة، لكن إذا اتجهت ناحية اليسار بعد دخولك عبر البوابة الرئيسية ستلمح قبرًا يحمل الرقم 151 وعلى مقربة منه نمت شجرة صبار منحنية قليلًا نحوه وكأنها تنحني تقديرا واحتراما لذلك البطل الذي واراه ثرى مصر ودفن بجانب أبطالها، وعلى شاهد القبر تقرأ اسمه.. "الشهيد المجاهد الأمير محمد عبد الكريم الخطابي بطل المغرب العربي".
إنه واحد من أهم قادة الحركات التحررية في القرن العشرين وعبقري حرب العصابات الذي قهر الإسبان وأزعج المستعمر الفرنسي، هو ملهم چيڤارا الذي أتى خصيصًا إلى القاهرة ليتعلم منه تقنيات حرب العصابات، والرجل الذي وصفه القائد الصيني ماو تسي تونج بأنه "أحد أكبر الملهمين الذي علمني كيف تكون حروب التحرير".
ولد محمد عبدالكريم الخطابي في أجدير بالمغرب عام 1882م، درس القانون الإسباني لمدة ثلاث سنوات ثم بدأ حياته المهنية في مدينة مليليه التي زاول بها مهنة التدريس لمدة خمس سنوات، ثم اشتغل مترجما ثم صحفيا حيث خصص له عمود يومي باللغة العربية، وعلى غرار والده تم تعينه سنة 1913 قاضيًا ثم رقي إلى منصب قاضي القضاة وهو في سن الثانية والثلاثين.
ويتفق المؤرخون على أن الخطابي كان في هذه المرحلة مؤمنا بالتعايش السلمي مع المستعمر حيث فسر تعاونه السياسي معهم وقتها بأن الريف لن يحقق أي تقدم بلا دعم خارجي، لكن موقفه نحوهم تغير بعد نهاية الحرب العالمية الأولى حينما بدأ الإسبان بالتغلغل العميق وتوسيع مواقعهم العسكرية على امتداد شمال المغرب، الأمر الذي رفضه شيوخ القبائل وعلى رأسهم والده، لتتحول العلاقة بين آل الخطابي والإسبان من التعايش إلى القطيعة.
بدأ الخطابي بانتقاد ممارساتهم كصحفي فتم عزله من كل مناصبه وقام الإسبان بسجنه أحد عشر شهرًا بتهمة التعاطف مع الألمان خلال الحرب العالمية الأولى والتخابر معهم، وقد حاول الفرار أكثر من مرة حتى كسرت ساقه في إحدى هذه المحاولات قبل أن يطلق سراحه.
حمل الخطابي راية المقاومة بعد وفاة والده - الذي يقال أنه مات مسمومًا – ووحد صفوف قبائل الريف تحت قيادته في عام 1921م ليبدأ أذكى حروب العصابات ضد المستعمر الإسباني.
معركة "أنوال" العسكرية:
كان الريفيون يشقون الأنفاق والخنادق بأبسط الإمكانات ليستهدفوا منها الإسبان في كمائن مفاجئة ليضربوا ضرباتهم ثم يختفون مباشرة بلا أثر بتكتيكات استنسخها چيڤارا وطبقها في كوبا بشكل كامل، ليحقق الخطابي ورجاله انتصارات سريعة قادتهم إلى معركة "أنوال" العسكرية.
في "أنوال" واجه الخطابي برفقة 3000 مقاتل ريفي جيش الإسبان الذي كان قوامه أكثر من 20 ألف مقاتل محترف لينتصر الريفيون على الإسبان في معركة أشبه بالمعجزة، وقتلوا منهم 15 ألف جندي وأسروا 700 وغنموا الآلاف من قطع السلاح والعتاد، وهي الهزيمة دفعت قائد الجيش الإسباني "مانويل سلفستري" للانتحار.
إعلان جمهورية الريف:
استمرت المقاومة حتى تحرر الريف المغربي بالكامل خلال أقل من عامين وأعلن الخطابي استقلاله عن الحامية الإسبانية للمغرب وتأسيس "جمهورية الريف" عام 1923م التي بدأها بدستور وبرلمان وتحويل رجاله من مقاتلين إلى جيش نظامي على النسق الحديث وشق الطرق ومد أسلاك البرق والهواتف، وأرسل إلى عواصم الدول العربية يطلب تأييدهم كما طلب من بريطانيا وفرنسا والفاتيكان الإعتراف بدولته.
رأت فرنسا في توسع الخطابي تهديدًا لنفوذها في شمال أفريقيا، فبدأت بتضييق الخناق عليه واستفزازه عسكريًا حتى لم يعد أمامها سوى التحالف مع الإسبان، فشكلوا قوة مشتركة قوامها 500 ألف مقاتل بمشاركة آلاف الخونة الذين تم تجنيدهم للقضاء على ثورة الريف، مدعومة بعشرات الطائرات، كما استخدموا وسائل عسكرية محرمة دوليًا مثل الغازات السامة والأسلحة الكيماوية كغاز الخردل الذي تم إلقاؤه لأول مرة بواسطة طائرات الجيش الإسباني ولا زالت آثاره موجودة حتى اليوم.
قرر الخطابي أن يفتدي بنفسه حياة من تبقى من رجاله وقام بتسليم نفسه للمستعمر الفرنسي مقتحمًا بجواده إحدى الثكنات العسكرية الفرنسية ليتم نفيه هو وأسرته إلى جزيرة "ريونيون" في المحيط الهادي لأكثر من عقدين من الزمان وهكذا تم حل جمهورية الريف 27 مايو 1926م.
من ريونيون إلى القاهرة
بعد أكثر من 20 عامًا قررت فرنسا نقله إلى أراضيها إلا أن الأقدار شاءت خلاف ذلك، فخلال عبور الباخرة بميناء بورسعيد للتزود بالوقود قام الملك فاروق بمنحه حق اللجوء السياسي وذلك عقب تلقي القيادة المصرية برقية من مجاهدي فلسطين تفيد بتحرك الباخرة من جزيرة ريونيون إلى قناة السويس وتطالب بإنقاذ الخطابي أثناء عبور الباخرة في القناة حيث تكون تحت سلطة محافظ السويس قانونيا.
وظل الخطابي مقيمًا بمنزله بالقاهرة الذي صار قبلة للثوار من كل أنحاء العالم، فاستأنف مقاومته مرة أخرى بالدعوة إلى استقلال المغرب وإنهاء الحماية الفرنسية والإسبانية، كما ساند من خلال إذاعة صوت العرب الحركات التحررية في كل من الجزائر وتونس وليبيا وباقي الدول العربية والإسلامية، إلى أن رحل عن عالمنا في 6 فبراير 1963 عن عمر يناهز 80 عامًا وتم تشييعه بجنازة عسكرية تقديرًا لنضالاته وكفاحه الوطني لتستقر رفاته بمثواه الأخير بالقاهرة تاركًا وراءه إرثُا وطنيا وإنسانيا أكبر من مجرد ثورة.