نحن والعقل الحديث!
بهجت العبيدي محطة مصرلقد عانت البشرية معاناة شديدة قبل أن تتخلص من الخرافات التي تكونت نتيجة العقل الأسطوري الذي كان يحاول أن يجيب للإنسان على تلك الأسئلة التي تؤرقه من ناحية، والذي كان يسعى أن يفسر الظواهر الطبيعية بما هو متاح من معلومات وفكر من ناحية ثانية، هذا العقل الأسطوري كان عقبة كأداء أمام التطور العلمي، حيث لم يخضع ما يواجهه من صعوبات وأزمات للتأمل والنظر والاستقراء، ولكنه لجأ إلى الحلول السحرية، فأحال كل ما يقع في الوجود إلى قوى غيبية ما وارئية كانت سببا في الراحة والدعة، ومن ثم التدهور والتأخر، ذلك الذي مانزال نجد له وجودا راسخا في مجتمعنا المصري ومجتمعاتنا العربية. ولعل ما هو منتشر من اعتماد مزعوم على الجن في تحقيق بعض الأهداف لهو دليل صارخ على أننا مازلنا نعيش بهذا العقل السحري وتلك الطريقة الأسطورية.
ولسنا في حاجة إلى تدليل ولا دليل، فمنذ عدة أيام تم القبض على نائب سابق في مجلس النواب بتهمة التنقيب عن آثار وبيعها: داخل مصر وخارجها، وهذا بالنسبة لنا خبر عادي، فكم من مجرمين يشكّلون عصابات للتنقيب على الآثار وبيعها، وكم من مجرمين يقترفون العديد من الجرائم في كافة مجالات الحياة، وهؤلاء يقف لهم القانون ورجاله من شرطة وقضاء بالمرصاد، إن الأكثر خطورة بالنسبة لي، ليس تلك الجرائم، التي تتصدى لها الدولة بكل حسم وحزم، ولكن ما يتم ترسيخه في الذهن والعقل المصري، من استخدام هذا النائب وغيره للجن في عمليات التنقيب تلك، هذا الذي يؤكد عمق العقلية الأسطورية وطريقة التفكير السحري، والاعتماد على الماورائيات في حل مشكلاتنا ما يجعل العقل المصري والعربي كذلك يعيش في تيه وغيبوبة عميقة. وهو ما يحعلنا بعيدين كل البعد عن العقل الحديث الذي تكون بعد صراع عنيف مع هذا العقل الذي يسيطر على عالمنا.
لقد خاض العقل الحديث صراع قوي وعنيف للتخلص من الخرافة والشعوذة والفكر الأسطوري الذي كان سمة العصور القديمة منذ وعي الإنسان الذي احتاج إلى أربعة ملايين ونصف سنة لكي ينتقل من عصر الصيد إلى العصر الزراعي، ذلك العصر الذي بدأت معه نشأة الحضارات، حيث استقر الإنسان حول الأنهار، ومن ثم بدأ في بناء القرى فالمدن، كان ذلك منذ حوالي عشرة آلاف سنة خلالها تطور العقل الإنساني تطورا كبيرا، هذا التطور الذي أخذ في الإسراع شيئا فشيئا إلى أن تسارع بشكل قوي حينما غادر العقل الأوروبي الخرافة بداية من القرن السادس عشر على يد الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت (بالفرنسية: René Descartes) (31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650)، والذي كان قد سبقه في القرن الخامس عشر العالم الرياضي والراهب نيكولاس كوبرنيكوس (باللاتينية: Nicolaus Copernicus) ولد (19 فبراير 1473 – 24 مايو 1543) (بالبولندية: Mikołaj Kopernik) وهو أول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها في كتابه "حول دوران الأجرام السماوية". وهو مطور نظرية دوران الأرض، ويعد مؤسس علم الفلك الحديث. الذي ينتمي لعصر النهضة الأوروبية - 1400 إلى 1600 ميلادية، ذلك العصر الذي فتح الآفاق أمام العقل البشري، والذي عقبه عصر التنوير، فكما جعل كوبرنيكوس الشمس هي مركز الكون، فلقد جعل إيمانويل كانط العقل هو المركز كذلك، وأنه ليس هناك سلطان على العقل إلا العقل ذاته، والذي جعله واحد عند كل البشر وطالب الإنسان بالجرأة في استخدامه، مفجرا كل طاقاته الهائلة.
وإن كان العقل واحد لدى كل البشر فإن النفس الإنسانية واحدة، كذلك، في كل بقاع الدنيا، وهذا الذي يفسر تفاعل وتأثر جنس الإنسان في العالم بما يبدعه المبدعون في مختلف الثقافات وكل الحضارات، وما ذلك إلا لكون هذا الإبداع يعبر عن النفس البشرية، ويسبر أغوار تلك النفس المشتركة بين بني البشر. وهو أيضا ما يؤكد أن تاريخ نضال الإنسان في التحضر هو ميراث مشترك! لا يخص جنس دون جنس، ولا أبناء حضارة دون حضارة، وأن ارتباط هذا الإنتاج ببيئة المبدع، لم تنزع عنه صفة المشترك الإنساني.
لقد عانى المسرحي والشاعر الفرنسي الشهير جُون بَاتِيسْت بُوكْلَان جُون بَابتِيسْت بُوكْلَان (بالفرنسية: Jean-Baptiste Poquelin)؛ المُلقب باسم مُولْيير (بالفرنسية: Molière) (باريس، 15 يناير 1622 – باريس، 17 فبراير 1673) والذي عاش في القرن السابع عشر في عصر ملك فرنسا الشهير لويس الرابع عشر عانى معاناة شديدة نتيجة للأفكار التي كانت منتشرة في عصره، والتي كانت ترى في الفن ضربا من المجون، وفي المسرح نوعا من الفسق، ومن التمثيل شيئا من التفاهة، ولكن تلك المعاناة التي تركت آثارها على نفسية الشاعر وجسده، لم تمنعه من الاستمرار في الإبداع، والجهاد في سبيل انتشال العقل الفرنسي من وحل الضيق إلى رحابة التفكير، وحرية الإبداع.
حينما أنظر في عصر المسرحي الفذ موليير، أرى بأم عيني ما يحدث في عالمنا العربي، وفي القلب منه مصر، التي إن نهضت في أي مجال من المجالات نهضت بها ومعها الأمة، أرى في مجتمعنا، كما في عصر موليير بفرنسا ذلك الفهم السقيم لأهمية الفنون، وذلك العقل المغلق على فهم محدود للدين؛ يجعله في مواجهة حتمية - ظالمة ووهمية - مع الآداب، وذاك التفسير السطحي للإبداع، وهو ما يضرب العقل الجدلي في المخيلة الجمعية للشعب المصري والأمة العربية في الصميم، ويخلق مجتمعا يسمع الصوت ولا ينتبه إلى صداه.
يظل دور المثقف حتمي في محاربة الأفكار الخاطئة، وفي إعلاء قيمة العقل، وفي تصحيح المفاهيم التي تؤدي إلى الانغلاق، وكان هذا هو ما قام به رواد عصر النهضة الأوروبي، الذين حطموا تابوهات ظل الناس يدورون في فلكلها قرونا طويلة، فلم يحصدوا منها إلا التخلف، ولم يجنوا منها إلا المعاناة والآلام. وسار على نفس درب هؤلاء فريق من أعلامنا على رأسهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، هذا الفريق الذي خطى في هذه الطريق خطوات؛ نراها معتبرة، لم يكتمل بها المشوار الطويل، وإذا بفريق يعاند الزمن يقف في وجه تلك المسيرة، وإذا به نتيجة لتشابك وتضافر عدة عوامل ينتصر جزئيا، وهنا لابد أن يكون للمثقف دور، وإلا كانت الهزيمة كلية.
من هذا المنطلق، فإننا نحارب بكل قوة هذه القوى الغيبية التي ما تزال تفعل أفاعيلها في العقل المصري، ومن هنا أيضا كان وقوفنا في وجه نائب آخر في مجلس في المجلس السابق والذي كان أيضا عضو لجنة التعليم بمجلس النواب، الذي أدلى بتصريحات صحفية سايقة يقول فيها: "اليوم الثقافة مليئة بالمشاكل والأحداث الغربية الوافدة من الأفكار القادمة من السينما، نحن لسنا في حاجة إلى تدريس أعمال نجيب محفوظ بقدر تدريس مناهج التربية القومية والدينية للنشء الجديد".
ووقوفنا ضد ما يخرج من مثل هذا النائب، وأمثاله كثيرون في مجتمعاتنا العربية، لأنهم لا يدركون قيمة مبدعينا، مرة، وقيمة الفنون بوجه عام مرة أخرى، وما تمثله تلك الآثار التي تركوها مرة ثالثة، وينظرون، بنظرة قاصرة، لها باعتبارها نوعا من الخلاعة أو العهر، وهذا هو عينه ما عنينا به أننا رأيناه في عصر المسرحي الفرنسي الشهير موليير، هذا الذي يعيش بيننا من أفكار، وما يقيم في مجتمعنا من فهم، ذلك الذي يمثل كارثة كبرى في فهم قيمة الفنون بشكل عام والأدب بشكل خاص، وهو يعكس ما يعانيه المجتمع من سيطرة أصحاب الأفهام الضيقة، على المشهد في مصر والعالم العربي.
إن هذا الفهم السقيم هو أحد أهم أسباب انتشار الثقافة الهشة في المجتمع العربي، التي بدورها تجعل المجتمع فريسة للأفكار الإرهابية، حيث أن دارس الأدب العظيم - مثل الذي خلفه أديبنا العالمي نحيب محفوظ - يكون صاحب عقلية جدلية، تلك العقلية القادرة على التمييز بين ما يلقى عليها من أفكار، وما يُطْلب منها من أفعال، وما يسعى الآخرون في إسكانه في أفهام أبناء الشعب العربي، وهنا تنتصر تلك العقلية الجدلية، ومن ثم لا يستطيع أصحاب الفهم المنغلق للدين أن يجذبوا إلى طريق التعصب والإرهاب، منتمين جدد.
من البديهي لدى المثقف أنه لو أردنا مجتمعا قويا قادرا على تخطي التحديات والتي منها الحفاظ على شخصيتنا العربية في مواجهة تلك الهجمة على ثقافتنا الخاصة، فلابد من تدريس الفنون الرفيعة والآداب العالية المستوى والتي منها أدب نجيب محفوظ وطه حسين وعباس العقاد ويوسف إدريس وآسيا جبار ومولود فرعون وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونزار قباني وأودنيس وغيرهم من كبار الأدباء المصريين والعرب.
وإذا أردنا نهضة حقيقية فلابد أن يقوم على الأمر في كافة المؤسسات الثقافية العربية هؤلاء الذين يستطيعون تقييم أعمال نجيب محفوظ وغيره من كبار أدبائنا، في ضوء أن الأدب نتاج الأديب، وأن الأديب نتاج البيئة، وأن الأدب يعكس بطريقة فنية المجتمع الذي نشأ فيه، وأن للفنون الرفيعة أهم الأدوار في تكوين الشخصية، بحيث لا يكون لضيقي العقل والرؤية أدنى علاقة بالتعليم الذي هو المكون للعقل الجمعي للأمم، والذي هو صاحب الدور الأول والأهم في تكوين الشخصية، لتكون هناك بداية حقيقية لصياغة عقل عربي واعٍ جدير بأن ينتمي لهذا الوطن الذي مازال يسهم في صنع الحضارة الإنسانية.