قابس سينما فن.. يحتفي بعوالم «الواقع الإفتراضي»
د. أمل الجمل محطة مصرهل حقاً ستُعيد تقنية «الواقع الإفتراضي» تشكيل مستقبل السينما؟
سؤال قد يخطر على بالك حينما تتأمل بعض التجارب الغنية والممتعة من هذا النوع السينمائي الحديث الذي بدأ ينتشر في المهرجانات الدولية وأصبحت له مسابقات خاصة للكبار وللطلبة أيضاً. شخصياً لدي يقين بأن التطور في مجال الفنون البصرية وفي مقدمتها فن السينما قادم لا محالة، فالتكنولوجيا تتقدم بسرعة تكاد تكون مرعبة.
منذ مشاهداتي الأولى لأفلام الواقع الإفتراضي في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي قبل عدة أعوام، وكذلك في كارلوفي فاري، ورغم الشعور الذي خامرني بأنه لابد لتقنية «الواقع الإفتراضي» من أنها قد تُسهم في إعادة تشكيل مستقبل السينما، لكن هذه التقنية ذاتها لازالت بحاجة إلي تطوير كبير خصوصاًَ فيما يتعلق بتقنية العرض، وهو الأمر الذي لم يشهد تطوراً ملحوظاً منذ نحو أربع سنوات.
لأن الجهاز العارض الذي نحمله على أعينيا لمشاهدة الأفلام، ثقيل بعض الشيء، ويأخذ قليلا من متعة المشاهدة خصوصاً لو كان الفيلم طويلاً بعض الشيء أو مكون من أجزاء، ثم لو كان مكان غير مكيف بسبب في الإجراءات الإحترازية التي تتخذها بعض الدول بمنع تشغيل المكيفات لما لها من مخاطر في تفشي الوباء.
مع ذلك، أعتقد أن فكرة تحديث الأجهزة العارضة أمر غير مستحيل، فقط ما علينا سوى أن نستعيد التطور الخاطف على أقراص الدرايف، واسطوانات سي دي، ودي في دي، ثم الفلاشات بأشكالها والهارديسك بأحجامه وسعته التي تطورت في لمح في البصر، وكذلك الهواتف المحمولة الذكية.
اقرأ أيضاً
أعادني لتلك الأفكار حضوري لفعاليات المهرجان التونسي «قابس سينما فن» في دورته الثالثة الممتدة من ١٦-٢٦ يونيه ٢٠٢١. والذي يُخصص ركناً بالغ الأهمية لأفلام «الواقع الإفتراضي»، شاهدت منها فيلم «مسارات أفريقية» بأجزاءه الثلاثة، عن المغرب والهند والبرازيل. الفيلم من توقيع المخرج التونسي سليم حربي والذي - إلى جانب مشاركته في عرضه أفلامه ضمن ركن أعمال «الواقع الإفتراضي» - ينضم إلى لجنة تحكيم «هاكاثون الواقع الإفتراضي» (Hackaton VR)، وهو مشروع تعاوني مع الطلاب من المعهد العالي للفنون والحرف بقابس - سيتم تنظيمه سنوياً للطلاب- يتعرفون من خلاله على جميع مراحل صنع فيلم بتقنية الواقع الإفتراضي، بدءاً من التصميم والكتابة مروراً بالإنتاج ومرحلة ما بعد الإنتاج.. وسيتم إنتاج هذا العام أربعة أفلام من قبل فرق طلابية كجزء من ورشة العمل، مع تخصيص جائزة لأفضل مشروع.
لم يكتف منظموا المهرجان بذلك، فهم يسعون بحرص وإصرار إلى تقديم أقصى إفادة لأبناء وبنات قابس من عشاق الفنون، هدفهم خلق جيل يمتلك مزيداً من الوعي، مُطلع على الحديث في كل الفنون، لذلك يسعون لتسليحه بالإمكانيات، وذلك بإتاحة الفرص للإحتكاك مع أصحاب الخبرات، ليس فقط من تونس ولكن من مختلف دول العالم، لذلك وفي إطار قسم الواقع الافتراضي - والذي افُتتح بعرض للفنانة التشكيلية الوتنسية هالة لمين بعنوان "still life"، وهو عمل جرافيك لازال قيد الإنجاز ينهل من الواقع الافتراضي - كذلك تم تنظيم «ماستركلاس» مع الفنان والمخرج البلجيكي التونسي كريم بن خليفة. إنه فنان متعدد التخصصات. بدأ حياته كمصور صحفي ومراسل حربي في العديد من الصحف العالمية مثل نيويورك تايمز، لومند، والتايم. سخّر كريم بن خليفة أداة السينما الافتراضية من أجل معانقة الحرية في أعماله الخاصة، وأثناء محاضرته تفاعل بن خليفة مع الحضور متحدثاً عن مسيرته المهنية ومنهجه في العمل وأسباب اختياره للواقع الافتراضي من دون بقية التقنيات، مثلما تطرق لبعض من الصعاب التي صادفته في حياته فكان الواقع الافتراضي أنيسه وسنده لتخطيها.
أن تكون أنت الكاميرا
لم أندهش وأنا أنصت لكلمات المدير الفني لهذا القسم محمد العربي صوالحية وهو يقول: «إنه قسم يجمع بين الصورة والتكنولوجيا، ويُمَكِّن المشاهد من التماهي مع تفاصيل العرض من خلال تقنية تشكّل وجودا ماديا آخر له بواسطة البرمجيات وتمكنه من الغوص في الأحداث والتفاعل مع الشخصيات دون حواجز.»
كان وصف صوالحية دقيق تماماً. تذكرت تجربتي مع مشاهدة الجزء المغربي من فيلم سليم حربي «مسارات أفريقية»، فقد بدأ شريطه والكاميرا في مكان مرتفع، كنت أشعر وكأنني أجلس فوق الكاميرا، كأنني أرى بعينها، مما منحني الشعور بالتوتر والإضطراب الشديد. كنت على وشك السقوط، لأنني فجأة وجدت جسدي يقف على حافة سور شاهق الارتفاع بينما البحر أمامي، ومن حولي يمتد المنخفض، فشعرت بالدوار القوي. أخذت نفساً عميقاً، وبدأت أتحسس بقدمي الأرض من تحتها، لأصل إلى أقرب كرسي للجلوس عليه.
إحساس مفزع. أقول لنفسي؛ إن هذا الخيال الفني البصري بالفيلم - الذي جعلني أشعر بالدوار - كان أقوى من الواقع، أقوى من شعوري وإدراكي الحقيقي بأنني أقف فعلياً على أرض صلبة. هذا الشعور في حد ذاته ينتصر للسينما، وللفنون مؤكداً على قوة تأثيرهما حتى وإن كان بطيئاً ويحتاج إلى سنوات.
استمتعت بمشاهدة فيلم حربي «مسارات أفريقية»، فإلى جانب المتعة السمع بصرية حيث الموسيقى التراثية والفلكلورية والتي أثناءها ستكتشف مدى تقديس أهالي هذه البلدان للموسيقى خصوصاً في البرازيل، أيضاً ستجد حربي يناقش في مجمل الأجزاء الثلاثة مسألة الهوية والأقليات الثقافية بصفة عامة، إذ يطرح للنقاش فكرة العبودية من خلال ثلاثة فنانين أفارقة، من عشاق الموسيقي وعازفيها، أحدهما بالمغرب، والثاني بالبرازيل، والثالث قرر السفر إلي الهند. إنها تجربة سمع بصرية يجب أن تُعاش أكثر وأفضل من سرد تفاصيلها، لذا أنصحك عزيزي القاريء بألا تفوت الفرصة إذا سنحت لك.
أيضاً، من بين التفاصيل اللافتة في الدورة الثالثة من مهرجان «قابس سينما فن» الممتدة بين ١٨- ٢٦ يونيه الجاري أن منظميه قرروا تخصيص عروض ضمن قسم الواقع الافتراضي - الذي يضم ١٥ عملا من ١٥ دولة - لنزلاء السجن المدني بقابس، وذلك بهدف خلق مساحة من الحرية والانعتاق والتخلص من حصار القضبان عبر هذه التجربة التي تمنحهم فرصة التحليق مع هذه الأفلام، فتحية تقدير لأصحاب هذه الفكرة التي تحترم آدمية الإنسان مهما كان وضعه وذنبه.