فاروق الباز ورحلتي مع المَلِكِ.. رؤية إبداعية نقدية
محطة مصربقلم أ.د/ جودة مبروك محمد
في زحام المناسبات والأعياد ظهر كتاب جديد للكاتبة مريم توفيق، بعنوان (رحلتي مع الملك) وهي تتحدث عن فاروق الباز الذي يلقب في الغرب بالملك، يتناول رحلة بحث من الكاتبة عن الملك بوصفة مثالاً للإنسان المصري، وقد شرفت بتقديم الكتاب، ووضع دراسة نقدية موجزة له.
فما أجمل أن تسارع إليك الكلمات كأنها حبات المطر أو نسمات الهواء أو سهام الضوء إلى محبرتك كي تكتب عن إبداعٍ تحمل جملُهُ نقوشَ الحبِّ والتقديرِ، فلا تكاد تقف عند مفردةٍ في هذا الفن إلا وقد اقتحمت نفسك هبة من زفير النفس المشبعة بأنغام الحياة، هكذا كله في رحلتي مع جميع مؤلفات المبدعة الكاتبة مريم توفيق، وهذا العمل خاصةً، وإِخالُ في كل عمل أنني حيال نظمٍ خاص وأسلوب متفرد وظلال معانٍ لم تُسْبَقْ إليها، ويصاحبني شعور في تلفُّظِ عباراتها أنها دوح صبَّاح يغرِّد للأمل ويقتبس معاني النور والضياء، مستشرفةً مستقبلاً سعيدًا للآخرين يغمره الأمل واللقاء، وعند عتبات كلماتها تقرأ: في البدء كان الحب، ومن الحب لا بد أن تكون الحياة.
تعزف الكاتبة مريم توفيق بين الأدباء جملاً لها إيقاعات دلالية خاصة، ضمَّنت كلماتها من الداخل نغمًا وإيقاعًا من خلال نسجه في ثوب قشيب، تلحظ من الوهلة الأولى أنها متمردة بسماحةٍ وودٍّ على الأساليب القديمة، لكنها بالرفق الذي عهدناه عنها، وبالرقة التي ظلَّلت معانيها، وبالعذوبة التي تشجي الأذن، وهي سابحة في جوٍّ يبرأ من القسوة إلى اللين، وتبعد نقمتها على العنف إلى رحب الفضاء الهادئ بعيدًا عن أي جرحٍ أو لون الجراح؛ من هنا كان السبب الذي جعلها تلتقي في الخيال أولاً مع عبقري الزمان ورائد الفضاء الدكتور فاروق الباز، وكأنها في كتابها عنه في بحثٍ عن الصورة المثال، وعن مكمِّلات الكمال، وأظنها تبحث في الفضاء فوجدت ذاتها هناك حيث فاروق الباز، وهو صاحب مشروعٍ وملك الأحلام.
غير أنني أعتقد أن الكاتبة عندما تدفعها الأماني إلى القمر عبر هذه الرحلة فإنها واحدة من السفريات الكثيرة، فليس الرحيل فقط بالجسد، إنه بالحلم والخيال، ومريم توفيق تحلق بإبداعها في فضاء الكلمات وانتظام الكواكب، وتبدو في صورة البريئة الحالمة التي تملك الخلاص للآخرين أو كأنها تضع خريطة للخلاص دون إفصاح مباشر.
لم يكن العبقري فاروق الباز سوى المثال الذي تهتدي إليه فراشتنا، تصفه ببراءة وعفوية، وهو يقف شامخًا مؤذنًا كل يوم في محرابه القدسي ملكًا له سيطرته في كونه أسوة نورانية تمثل منارة اهتداء للحائرين.
لكن الأمر العجيب أننا أمام شخصيتين في هذا العمل، شخصية فاروق الباز، وشخصية المبدعة مريم توفيق، وكلاهما هاوٍ للفضاء، ووصل إليه، والفرق بينهما أن الوصول للأول ماديٌّ، عن طريق الملامسة الحقيقية، والوصول للثاني خيالية، عن طريق أحلام اليقظة والتمني، والذي يبقى هو اللقاء بينهما.
ويبقى للمعجم اللغوي الذي تستقي منه الكاتبة خصوصيته، فاستحضرت ألفاظ البراءة والنقاء مثل: القمر والشمس والطفولة ونجم وزهر وأضاء ... حاولت الكاتبة أن تبتعد قدر الإمكان عن الجو الاجتماعي الذي يظلل حياة البشر وإليه يؤنسون، فآثرت المعيشة في فضاء الكواكب، حيث يسكن الملك، بعيدًا عن زحام الكوكب الأرضيّ وغيرة على نجمها من عشاقِهِ.
أما عن التراكيب فهي مسكوكات خاصة تولدت نتيجة الحالة الجديدة وهي السكن في الفضاء، فترادفت مع غرابة الرحلة وتطابقت معها، فرأينا تراكيب مثل: مدارات الحنين، فكلمة ((مدارات)) لها الوصف لفعل الأقمار والكواكب والنجوم، ولكنها مدارات خاصة بالحنين، وقولها: ((على جناح الصباح))، فلأن السفر ههنا طيرانٌ ناسَبَهُ ((جناح))، وهو أداته، غير أنه جناح الصباح، وقولها: ((يسكن في جزر الريحان))، نلحظ فراغ المكان بالتعبير بالجزر، وهي بعيدة عن الناس، ولا توجد إلا في الأحلام، ولكنها جزر الريحان، فجمعت بهذا الوصف صفتين: الفرار من صخب البشر، والرائحة الذكية بفعل الريحان، فتشكَّل الفراغ المنعكس من صورة الفضاء.
أما عن تقسيم موضوعاتها فكأنها أنَّاتٌ عشقٍ ونبضات قلب على شكل جملٍ قصيرة تشي بانقطاع النفس وتجدده من آن لآخر، وهو ما ينتج عن فعل الحركة المستمرة التي تتطلب مجهودًا، ويتعلَّقُ بفعل اللهفة والشوق إلى اللقاء في عالم الخيال. أما عن عنوانات المقطوعات فخرجت عن المألوف في السير، فأضحتْ ترجمة لحالة قلب يرنو إلى المحبوب، ووصفًا لنشوةِ نفسٍ تُنزَع إلى عالم آخر تكمن فيه السعادة الحقيقية.
تلك الكلمات التي قالتها الكاتبة والأديبة مريم توفيق حالة جديدة في عالم الكتابة، تعتمد على القصِّ الانطباعي الحالم أكثر من الواقعي، عكس ما كان معهودًا من قبل، حيث كان يُتَرْجَمُ للشخصية بصدقٍ دون تدخُّلٍ من الكاتب في تغيير مسارات الواقع، ويحدث تتبعٌ لمسارات حياته، أما هنا فإن الترجمة للداخل ، وقراءة لانعكاسات النفس والقلب، وتعتمد على ثنائية الجذب: الكاتبة من ناحية وفاروق الباز من ناحيةٍ أخرى، وفي اعتقادي أنها بهذا العمل تبدأ في صياغة عالم جديد من الكتابة.