نظام الثانوية العامة الجديد بين الرفض والقبول
أ.د/ جودة مبروك محمد محطة مصرفي فتح قنوات النقد تجاه نظام تعليمي ربما يعرض المسؤول ومتخذ القرار لحالة ارتباكٍ بناء على الرأي الجماهيري، وهذا أمر يُحْسَدُ عليه الدكتور طارق شوقي في ظل فترته في الوزارة، وبعد ثورات عربية ومحلية وأزمات عالمية بانتشار أوبئة ووجود أكثر من 23.5 مليون طالب في التعليم قبل الجامعي، ولا أظن أن وزير التعليم بما حمله في حقيبته من ملف التطوير بناجٍ من النقد في كل قراراته سواء أصاب فيها أم أخطأ، فنحن لدينا مئة مليون خبير تعليمي، وبعدد هؤلاء الطلاب من ينظِّرون ويفتون في مستقبل التعليم، ولعل هناك ما يبررها، كحماسة أولياء الأمور مَنْ لهم أبناء في الثانوية العامة، وهي السنة التي لا تقبل فشلاً أو إخفاقًا ولو بنسبة قليلة من إدارة المنظومة التعليمية وعلى رأسها الوزير، غير أننا ضد ما نجهل، ولا نقبل منهجية التجريب في حياتنا، فما نعلمه أفضل مما لا نعلمه.
ليست تجربة التطوير بالأولى من نوعها في تاريخ مصر، ولسنا بصدد إحصائها أو تتبعها، لكنها بدأت منذ حكم محمد علي، ومرورًا بالتعليم المجاني والإلزامي عندما تقلَّد طه حسين وزارة المعارف عام 1950م اتخذ أول قرار: التعليم حق لكل مواطن وأنه كالماء والهواء، ومما لا جدال فيه أن كل مَنْ قدم إلى ذلك المكان تراوده الفكرة ، ولكن في ظل هذا العصر الذي نشهده من بناء على الأصعدة كافةً في بناء مصر الحديثة من حقنا أن تمتلك دولة بحجم مصر بما لديها من خبرات في شتى المجالات إستراتيجية لا تقبل التحوُّل ، ولا ترتبط بفكر وزيرٍ قَدِمَ أو غادرَ، وفي اعتقادي أن ذلك العصر يعد فرصة قوية لإحداث نقلة نوعية في آليات التعليم ونظامه، بدءًا من المحتوى العلمي للمقررات ، ومرورًا بهدف الوزارة في وضع مخرجات تعليمية تنافسية مع دول العالم، وانتهاء بآليات التقويم.
بيد أن بعضًا من نقاط القوة الضعف تنتاب ذلك الإجراء، علينا أن نضعها في حوار مجتمعي حتى لا يكون فرد أو شخص بعينه هو المسؤول والمحاسب أمام التاريخ، يجب أن يكون ذلك النظام محض اختيار من المجتمع كل المجتمع ، وذلك بفتح حوار مفتوح ومناقشات مجتمعية، تستقطب كل الآراء، كي يختار المصريون مستقبلهم .
أما الملاحظ من إيجابيات فعل أبرزها محاولة إثبات شخصية الطالب وتوكيد ذاته بما حصَّله من قدرة على الفهم والتحليل والاستنتاج والاستنباط للمعلومات، فنظام التقويم لا يعتمد على الحفظ والتلقين كما كان في السابق، ولعل جدوى هذا النظام هو خلق عقلية ناقدة تستوعب وتقوِّم وتستطيع أن تأخذ قرارًا مناسبًا في المسألة العلمية، بما ينعكس على دورها في صناعة الحياة، إيذانًا بدخولنا عصر الاختراعات والاكتشافات وتصدير المعرفة، بدلاً من كوننا مستهلكين لها، وتلك خطوة مهمة أدركها التعليم المصري مؤخرًا.
لكن بلاشك هناك معوِّقاتٌ تصادف التطبيق، أهمها ضوضاء التقليد والمتحمسين له، ومعتقدات المجتمع وإيمانه بالنظرة إلى تصنيف الكليات وربطها باعتبارات طبقية تعليمية فيما يسمَّى بكليات القمة والكليات المتوسطة، فقد اعتاد المجتمع كمِّ الدرجات التي تحدد مصير الطلاب، دون النظر إلى ما إذا كان المجموع يعبر عن حقيقة البناء العقلي للطالب أم لا، المهم هو التحاق الطالب بوهمٍ اسمه كليات القمة.
لقد هدف واضعو ذلك النظام والمخططون له إلى توفير ميزانيات مالية تقع على كاهل الأسرة جراء الدروس الخصوصية، ظنًّا منهم أن هذا التغيير يأتي بين ليلة وضحاها، وأن المجتمع سيصل إلى تلك الحقيقة، بل إن أولياء الأمور خاصة في ظل أزمة كورونا وكثرة غياب الطلاب، وهي الصفة الغالبة أكثروا في اعتقادي من الدروس الخصوصية، أو على الأقل الدروس هي هي لم تتأثر برؤية الوزارة، والحوار ما زال مستمرًا بين المسوؤلين وأولياء الأمور، وقطبا العملية التعليمية الطالب والمعلم خارج إطار المناقشة، فأصبحنا كالذي يصطاد سمكًا في الصحراء وبين الصخور.
ولعل هذه أبرز سلبيات ذلك العهد من التعليم، فلم يصل بعد إلى حالة من الرضا المجتمعي، وأصبحت تنتاب الكثير من القرارات مساومات على حساب المحصلة العليمية للطلاب وآليات التقويم ونتائج الاختبارات، مما دفع المدارس في كثير من الأحيان بإنجاح الطلاب لمجرد دخولهم الاختبار أو اعتبار درجة صفر الدرجة الصغرى للنجاح ، مما يدعو إلى وضع علامات التعجب، ربما تعتمد على أزمة كورونا، وكذا الفصل بين المحتوى العلمي وأسئلة الاختبارات بشكل مباشر، جعل الطالب تهتزُّ ثقته بجدوى المذاكرة، ولعودة هذه الثقة يجب أن تكون نوعية هذه الأسئلة قليلة من الوزن النسبي للمقرر، وأن يكون النظام التقليدي وهو الأسئلة التي ترتبط بشكل مباشر بالمقرر هي الغالبة.
لا أعتقد أننا قد وصل بنا الأمر إلى تحقيق الهدف الذي رجوناه من التطوير، إننا ما زلنا تحت طور التجريب واكتشاف المميزات والعيوب، لكن علينا أن نتمهل قليلاً من الحكم على هذا النظام بالسلب أو الإيجاب، حتى تكتمل الفرصة أمامه، لكن عليه أن يتمهل قليلاً فيما يخص السنوات النهائية التي تراهن عليها الأسر، وتعد لها العدة، وأن يُراعَى في الاختبارات أن تقيس المستوى العلمي الحقيقي للطلاب، وأن يلتزم واضعو الأسئلة الدقة، خاصة في بعض المواد التي تأتي فيها الأسئلة الموضوعية، حتى لا يتيه الطلاب بين تلك الاختيارات المتعددة التي قد تصلح جميعها أو أغلبيتها، وقد يختلف المعلمون في تحديدها، مما يصيب الطالب بالإحباط وعدم جدوى المذاكرة، حينما يستوي الجميع.
لكن الرهان الحقيقي أن مصر قادرة على عبور التحدي في التطوير المستمر والتحديث وخلق مستقبل أفضل لأبنائها بعد سنوات من العزلة والتقليد ونعود مرة أخرى للتنافسية العلمية مع الأمم الأخرى، وتصبح أجيالنا القادمة قادرة على تحقيق التقدم الحضاري لمصر.