عن تغير المناخ وجمود السياسات
محمود محي الدين محطة مصرفي خضم تطورات عالمية كبرى وتحديات شتى، ليس أقلها خطورة وباء كورونا وتداعياته، أصبح لموضوع تغيرات المناخ أولوية بالغة باتت تتجاوز دوائر تناوله التقليدية.
ولا شك أن تدهور المناخ يستدعي الاهتمام الواجب بما أصابه من أوجه ضرر شملته مع زيادة المخاطر التي تهدد البيئة والطبيعة ومكوناتها، والأرض بما عليها وتحتها، والبحار وما في باطنها.
وقد كان ذلك كله محلاً لتقرير شامل أشرف عليه السير بارثا داسجوبتا، الأستاذ بجامعة كمبريدج، وشهد تدشينه الشهر الماضي الأمير تشارلز ولي عهد المملكة المتحدة ورئيس وزرائها بوريس جونسون.
اقرأ أيضاً
ويلخص التقرير المشكلات المحدقة بنا في أربع نقاط:
- إن العالم رغم تطوره الصناعي والتكنولوجي، أمسى أكثر اعتماداً على الطبيعة كأهم الأصول المتاحة.
- إن إدارة الموارد الطبيعية الناضبة والمتجددة على السواء، تعاني من سوء شديد بسبب تجاوز الطلب المطرد قدرات الطبيعة على تحمله.
- إن الاستمرار في انتهاكات الطبيعة يعرض مصائر وحقوق الأجيال الحالية والقادمة لمخاطر جمة، وتجعل الأوبئة مثل كورونا التي نعاني منها اليوم مجرد قمة لجبل جليدي ضخم.
- إن جذور المشكلة تكمن في فشلين: الأول فشل الأسواق في التسعير المناسب لمواردنا الطبيعية والانحياز للاستثمار في رأس المال المادي على حساب الاستثمار الواجب في الحفاظ على رأس المال الطبيعي المرتبط بالبيئة، والثاني في فشل مؤسسات الدولة في الرقابة والإدارة والإنفاق المنفلت المحفز لتدمير البيئة، الذي يتراوح بين 4 تريليونات دولار و6 تريليونات دولار سنوياً.
والحل الرئيسي وفقاً لتقرير داسجوبتا المهم يكمن في تعديل نهج قياس إنجازات التنمية الاقتصادية في جميع البلدان، ليدمج في حساب الثروة جميع الأصول؛ وأولها الأصول الطبيعية، فضلاً عن الأصول المادية والمالية للمجتمع. وهذا يتطلب نظاماً جديداً للحسابات القومية للدخل والناتج، كما يستلزم تغييراً في السياسات المالية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسسات القائمة عليها.
ويحدد التقرير مجالات الاستثمار الخاص والعام؛ فالاستثمار المستدام هو مظلة عامة في تطوير الأصول وفقاً لاعتبارات مالية كالربح تشترك مع اعتبارات التأثير الإيجابي الشامل، الاستثمار الأخضر هو مكون من الاستثمارات المستدامة تتركز في الطبيعة مثل السندات والصكوك الخضراء وصناديق الاستثمار في التنوع البيئي. ويضاف إلى هذه الاستثمارات بعد مهمل وهو الاستثمار المباشر في رأس المال الطبيعي في حماية وصيانة رأس المال الطبيعي مثل مصادر المياه والغابات والشواطئ. إذا نجح هذا النهج فسيحقق اعتدالاً في الطلب على الموارد البيئية والطبيعية بما يتناسب مع ميزان قدراتها على الوفاء بها، ويبلغ بنا شاطئ الاستدامة.
يستحق هذا العمل التقدير للجهد المبذول فيه الذي استند في متونه وملاحقه إلى أدلة رقمية واستشهادات علمية موثقة، وسيكون له تأثير في الأعمال التحضيرية لقمة الأمم المتحدة لتغير المناخ التي ستعقد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل بمدينة غلاسكو الاسكوتلندية.
وفي صياغة سياسات الاستدامة لا بد لنا من وقفة واجبة لاستجلاء مقاصد توجه أصبح غالباً في التوصيات المقدمة للدول على اختلافها وتباين دخولها ونصيبها من التقدم والتنمية. فقد بات ملاحظاً أن ما يقصده البعض بمفهوم الاستدامة يقتصر على التعامل مع تغيرات المناخ وفقاً لاتفاقية باريس فحسب، وأن المطلوب من الدول هو تشجيع الاستثمارات العامة والخاصة في مجالات التوافق مع تغيرات المناخ أو التخفيف من حدته لتحقيق هذه الاستدامة، وفي هذا خطر عظيم على التنمية خصوصاً في الدول النامية.
ففي إطار حماسنا الواجب والمشروع للتصدي لتغيرات المناخ، لا ينبغي أن ننسى أن هذا هدف واحد فقط من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، التي أقرها قادة الدول في قمة خاصة بالأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2015. وأنه لا مجال لتحقيق الاستدامة المنشودة مع إهدار تحقيق الهدف الأول للتنمية المستدامة وهو القضاء على الفقر، خصوصاً بعدما زادت أعداد من يعانون من الفقر المدقع لأول مرة منذ عام 1998 بما يزيد على 100 مليون إنسان بسبب الجائحة. هل يمكننا إهمال السعي لتحقيق العدالة في الدخول وفرص المساواة، وهو الهدف العاشر، خصوصاً بعد زيادة حدة التفاوت منذ الثمانينات وارتفاع حدة الاحتقان المجتمعي والتوتر السياسي بسببها؟
وقد علمتنا التجربة العالمية المريرة مع وباء كورونا أثر تدهور الرعاية الصحية على النحو المنصوص عليه في الهدف الثالث من أهداف التنمية، فهل لم نعِ من هذا الدرس شيئاً؟ وماذا عمن أصابهم فقر التعلم من جراء الجائحة وأضيفوا إلى إخوة لهم يعانون أصلاً من تراجع الأداء بشكل عام في تحقيق نوعية راقية من التعليم، وهو ما يذهب إليه الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة؟
إن نبل مقاصد حماية المناخ والبيئة للأسباب التي أوردناها يحتم وضعها قيد التنفيذ في إطارها الصحيح الذي يتمتع بتطلعات عموم الناس وبمساندة سياسية؛ وهو النهج الشامل لأجندة 2030، التي تتناول بشكل متكامل ومترابط تحقيق التنمية البشرية والنمو الاقتصادي الشامل للكافة في إطار من الحوكمة والمشاركة الدولية في تحقيقها. لا يحتمل التنفيذ الفعال لهذا الإطار المتكامل انتقائية أو اجتزاءً.
وفي تعليق نشرته صحيفة «الفايننشيال تايمز» لكاتب هذه السطور على مقال الكاتب الاقتصادي مارتن وولف في عرضه لتقرير داسجوبتا، نوهت بخطورة خلق نظام ذي مسارين؛ الأول مسار سريع نحو تحقيق أهداف تغيرات المناخ، والثاني بطيء لباقي أهداف التنمية المستدامة، بما في ذلك من إهدار لمزايا التكامل بين أهداف التنمية وشمولها والوحدة الواجبة لإطارها التمويلي والتنفيذي.
ويذكرنا تقرير حديث صدر في شهر فبراير (شباط) الماضي عن بنك التنمية للبلدان الأميركية، الذي يعتمد إقليمه الاقتصادي على الصناعات الاستخراجية، بأهمية صياغة سياسات متوازنة ومرنة تراعي قواعد التخارج المنضبط من الأنشطة الملوثة للبيئة. يحتم هذا إدارة كفؤة للعملية الانتقالية نحو اقتصاد يساند أولويات حماية البيئة وخفض الانبعاثات الضارة بالمناخ من خلال التنسيق بين سياسات الطاقة والإنتاج والنمو وتشغيل العمالة وتفعيل نظم الضمان الاجتماعي. أصبح التخلي عن جمود إجراءات بعينها واجباً في عالم شديد التغير، تعتركه تداعيات الجائحة وتكتنفه ظروف اللايقين، فلا سبيل لمواجهة هذه التحديات إلا بدولة قوية تتبنى سياسات مرنة، تزكي أولوية تحقيق أهداف الصالح العام على التشبث بقوالب جامدة من التوصيات ذات الرطانة.
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط